صفحة جزء
ولما أخبر - سبحانه - بأنهم جعلوا لله أندادا؛ وأعلم بأنهم كذبة في ذلك؛ كافرون؛ ساترون للحق؛ وأنه لا يهدي من هو كاذب كفار؛ وأخبر أنه لا بد من خصام الداعي لهم بين يديه - سبحانه -؛ لأنه لا يجوز [ ص: 503 ] في الحكمة تركهم هملا؛ كما هو مقرر في العقول؛ وموجود في الفطر الأولى؛ ومعلوم بالمشاهدة من أحوالهم؛ فينعم على المظلوم؛ وينتقم من الظالم؛ وكان الكاذب في أقل الأشياء ظالما؛ وأظلم منه الكاذب على الأكابر؛ وأظلم الظالمين الكاذب على الله؛ قال (تعالى) - مسببا عما مضى -: فمن أظلم ؛ أي: منهم - هكذا كان الأصل - ولكنه قال: ممن كذب ؛ تعميما؛ وتعليقا بالوصف؛ فكفر بستر الصدق الثابت؛ وإظهار ما لا حقيقة له.

ولما كان الكذب عظيم القباحة في نفسه؛ فكيف إذا كان كما مضى على الأكابر؟! فكيف إذا كانوا ملوكا؟! فكيف إذا كان على ملك الملوك؟! لفت القول إلى مظهر الاسم الأعظم؛ تنبيها على ذلك؛ فقال: على الله ؛ أي: الذي الكبرياء رداؤه؛ والعظمة إزاره؛ فمن نازعه واحدة منهما قصمه؛ فزعم في كذبه أن له - سبحانه - أندادا؛ وشركاء؛ وأولادا.

ولما كان وقوع الحساب يوم القيامة حقا؛ لكونه واقعا لا محالة؛ وقوعا يطابق الخبر عنه؛ لما علم من أنه لا يليق في الحكمة غيره؛ لما علم من أن أقل الخلق لا يرضى أن يترك عبيده سدى؛ فكيف بالخالق؟ فكان الخبر به صدقا؛ لوقوع العلم القطعي بأنه يطابق ذلك الواقع؛ قال: وكذب ؛ أي: أوقع التكذيب لكل من أخبره؛ بالصدق ؛ أي: الإخبار بأن الله واحد؛ وأنه يبعث الخلائق للجزاء؛ المطابق [ ص: 504 ] كل منهما للواقع؛ لما دل على ذلك من الدلائل المشاهدة؛ إذ جاءه ؛ أي: من غير توقف؛ ولا نظر في دليل؛ كما هو دأب المعاندين؛ أولئك هم الكافرون؛ لهم ما يضرهم من عذاب جهنم؛ ذلك جزاء المسيئين.

ولما كان قد تقرر كالشمس أنه لا يسوغ في عقل العاقل ترك الخلق سدى؛ فكان يوم الدين معلوما قطعا؛ وكان معنى هذا الاستفهام الإنكاري نفي مدخوله؛ فترجمته: ليس أحد أكذب منهم؛ وكان عرف اللغة في تسليط هذا النفي على صيغة "أفعل"؛ إثبات مدلول "أفعل"؛ ليكون المعنى أنهم أكذب الخلق؛ فكان التقدير: "أليس هذا الكاذب المكذب عاقلا؛ يخشى أن يحاسبه الله الذي خلقه؟ أليس الله المتصف بجميع صفات الكمال يحاسب عباده؛ كما يحاسب كل من الخلائق من تحت يده؟ أليس يحبس الظالم منهم في دار انتقامه؛ كما يفعل أدنى الحكام؟ أليس دار انتقامه جهنم؛ التي تلقى داخلها بعبوسة وتجهم؟"؛ نسق به قوله: أليس في جهنم ؛ أي: النار؛ التي تلقى داخلها بالتجهم؛ والعبوسة؛ كما كان يلقى الحق وأهله؛ مثوى ؛ أي: منزل مهيأ للإقامة فيه؛ على وجه اللزوم لهم؟ هكذا كان الأصل؛ ولكنه قال - تعميما؛ وتعليلا بالوصف؛ مبينا أن الكذب كفر؛ أي: ستر للصدق؛ وإظهار لما لا حقيقة له؛ والتكذيب بالصدق كذلك -: للكافرين ؛ أي: الذين ستروا كذبهم؛ فألبسوه ملابس الصدق؛ وستروا الصدق الذي كذبوا به؛ [ ص: 505 ] ذلك جزاء المسيئين؛ لأنهم ليسوا بمتقين؛ فأقام - سبحانه - هذه المقدمة دليلا على تلك المقدمات كلها.

التالي السابق


الخدمات العلمية