صفحة جزء
ولما أخبر عن ظهور هذا لهم؛ علله بأنهم كانوا يفعلون ما لم يكن في العادة يتوقع منهم؛ وهو مجازاة الإحسان بالإساءة؛ وقد كانوا جديرين [ ص: 528 ] بضده؛ فقال: فإذا ؛ أي: وقع لهم ذلك بسبب أنهم إذا مسهم؛ ولكنه أخبر عن النوع الذي هم منه بما هو مطبوع عليه؛ فقال: مس الإنسان ضر ؛ أي ضر كان؛ من جهة يتوقعها؛ كما تقدم في التي في أول السورة؛ ويجوز أن يكون مسببا عن الإخبار بافتدائهم بما يقدرون عليه؛ وأن يكون مسببا عن اشمئزازهم من توحيد الله؛ تعجيبا من حالهم في تعكيسهم؛ وضلالهم؛ وتقدم في الآية التي في أول السورة سر كونها بالواو؛ ولفت القول إلى مظهر العظمة؛ دالا على أن أغلب الناس لا يرجى اعترافه بالحق؛ وإذعانه لأهل الإحسان؛ إلا إذا مس بأضرار؛ فقال: دعانا ؛ عالما بعظمتنا؛ دون آلهته؛ مع اشمئزازه من ذكرنا؛ واستبشاره بذكرها.

ولما كان ذلك الضر عظيما؛ يبعد الخلاص عنه؛ من جهة أنه لا حيلة لمخلوق في دفعه؛ أشار إلى عظمته؛ وطول زمنه؛ بأداة التراخي؛ فقال - مقبحا عليه نسيانه للضر؛ مع عظمه في نفسه؛ ومع طول زمنه -: ثم إذا خولناه ؛ أي: أعطيناه؛ على عظمتنا؛ متفضلين عليه؛ محسنين القيام بأمره؛ وجعلناه خليقا بحاله؛ جديرا بتدبيره على غير عمل عمله؛ محققين لظنه الخير فينا؛ وأحسنا تربيتنا له؛ والقيام عليه؛ مع ما فرط [ ص: 529 ] في حقنا؛ نعمة منا ؛ ليس لأحد غيرنا فيها شائبة من؛ ولولا عظمتنا ما كانت؛ قال ؛ ناسيا لما كان فيه من الضر؛ وإن كان قد طال أمده؛ قاصرا لها على نفسه؛ غير متخلق بما نبهناه على التخلق به من إحساننا إليه؛ وإقبالنا عليه عند إذعانه؛ مذكرا لضميرها؛ تفخيما لها؛ وبنى الفعل للمجهول إشارة إلى أنه لا نظر له في تعرف المعطي من هو؛ يشكره؛ وإنما نظره في عظمة النعمة؛ وعظمة نفسه؛ وأنها على مقدار ما؛ إنما أوتيته ؛ أي: هذا المنعم به علي؛ الذي هو كبير؛ وعظيم؛ لأني عظيم؛ فأنا أعطى على مقداري؛ و"ما"؛ هي الزائدة الكافة لـ "إن"؛ للدلالة على الحصر؛ ويجوز أن تكون موصولة؛ هي اسم "إن"؛ وخبرها قوله: على ؛ أي: إيتاء مستعليا؛ متمكنا على علم ؛ أي: عظيم؛ وجد مني؛ بطريق الكسب؛ والاجتهاد؛ ووجوه الطلب والاحتيال؛ فكان ذلك سببا لمجيئه إلي؛ أو: علم من الله باستحقاقه له.

ولما كان التقدير: "ليس كذلك؛ ولا هي نعمة"؛ قال - دالا على شؤم ذلك المعطى؛ وحقارته؛ لأنه من أسباب إضلاله؛ بالتأنيث -: [ ص: 530 ] بل هي ؛ أي: العطية؛ والنعمة؛ فتنة ؛ لاختباره؛ هل يشكر؛ أم يكفر؛ لتقام عليه الحجة؛ فإن أدت إلى النار كانت استدراجا؛ وأنث الضمير تحقيرا لها؛ بالنسبة إلى قدرته - سبحانه وتعالى -؛ ولأنها أدت إلى الغرور؛ بعد أن ذكر ضميرها أولا؛ تعظيما لها؛ لإيجاب شكرها.

ولما كان من المفتونين من ينتبه؛ وهم الأقل؛ قال - جامعا؛ تنبيها على إرادة الجنس؛ وأن تعبيره أولا؛ بإفراد الضمير؛ إشارة إلى أن أكثر الناس كأنهم في ذلك الخلق النحس نفس واحدة -: ولكن أكثرهم ؛ أي: أكثر هؤلاء القائلين لهذا الكلام؛ لا يعلمون ؛ أي: لا يتجدد لهم علم أصلا؛ لأنهم طبعوا على الجلافة؛ والجهل؛ والغباوة؛ فلو أنهم إذا دعونا وهم في جهنم أجبناهم؛ وأنعمنا عليهم نعمتنا؛ ونسبوها إلى غيرنا كما كانوا يفعلون في الدنيا؛ سواء.

التالي السابق


الخدمات العلمية