صفحة جزء
ولما تشوف السامع إلى بيان هذا التنزيل المفرق بالتدريج، بين [ ص: 136 ] أنه مع ذلك حاو لكل خير فقال [مبدلا من تنزيل]: كتاب أي: جامع قاطع غالب.

ولما كان الجمع ربما أدى إلى اللبس قال: فصلت أي: تفصيل الجوهر آياته أي: بينت بيانا شافيا في اللفظ والمعنى مع كونها مفصلة إلى أنواع من المعاني، وإلى مقاطع وغايات ترقى جلائل المعاني إلى أعلى النهايات، حال كونه قرآنا أي: جامعا مع التفصيل، وهو مع الجمع محفوظ بما تؤديه مادة "قرأ" من معنى الإمساك، وهو مع جمع اللفظ وضبطه وحفظه وربطه منشور اللواء منتشر المعاني لا إلى حد، ولا نهاية وعد، بل [كلما] دقق النظر جل المفهوم، ولذلك قال تعالى: عربيا لأن لسان العرب أوسع الألسن ساحة، وأعمقها عمقا وأغمرها باحة، وأرفعها بناء وأفصحها لفظا، وأبينها معنى وأجلها في النفوس وقعا، قال الحرالي: وهو قرآن لجمعه، فرقان لتفصيله، ذكر لتنبيهه على ما في الفطر والجبلات، وجوده حكيم لإنبائه الاقتضاءات الحكمية، مجيد لإقامته قسطاس العدل، عربي لبيانه عن كل شيء، كما قال تعالى في سورة أحسن القصص، وتفصيل كل شيء مبين لمحوه الكفر بما أبان من إحاطة أمر الله، محفوظ لإحاطته حيث لم يختص فيقبل العدول عن سنن.

ولما كان لا يظهر إلا لمن له قابلية ذلك، وأدمن اللزوم ذلا [ ص: 137 ] للأعتاب، والقرع خضوعا وحبا للأبواب، قال معلقا بـ (فصلت أو تنزيل) أو (الرحمن الرحيم) : لقوم أي: ناس فيهم قوة الإدراك لما يحاولونه يعلمون أي: فيهم قابلية العلم وتجدد الفهم بما فيهم من سلامة الطبع وسلاسة الانقياد لبراهين العقل والسمع وحدة الأذهان وفصاحة اللسان وصحة الأفكار وبعد الأغوار، و[في] هذا تبكيت لهم في كونهم لا ينظرون محاسنه فيهتدوا بها كما يعتنون بالنظر في القصائد حتى يقضوا لبعضها على بعض حتى أنهم ليعلقون بعضها على الكعبة المشرفة تشريفا له، وفيه حث لهم - وهم أولو العزائم الكبار - على العلم به ليغتنوا عن سؤال اليهود، وفيه بشرى بأنه تعالى يهب العرب بعد هذا الجهل علما كثيرا، وعن هذا الكفر إيمانا عظيما كبيرا، وفي الآية إشارة إلى ذم المقترحين المشار إليهم آخر التي قبلها بأنهم قد أتاهم ما أغناهم عنه من آيات هذا الكتاب الذي عجزوا عن مباراته، ومناظرته ومجاراته وذلك في غاية الغرابة، لأنه كلام من جنس كلامهم في كونه عربيا، وقد خالف كلامهم في تخطيه من ذرى البلاغة إلى فنن تضاءلت عنها أشعارهم ، وتقاصرت دونها خطبهم وأسجاعهم، مع كونه ليس شعرا ولا سجعا أصلا ولا هو من أنواع نثرهم، ولا من ضروب خطبهم، فعجزوا عن الإتيان بشيء [ ص: 138 ] من مثله في مر الأحقاب وكر الدهور والأعصار، وكفى بذلك معجزة شديدة الغرابة بمن ينيب.

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تضمنت سورة غافر بيان حال المعاندين وجاحدي الآيات، وأن ذلك ثمرة تكذيبهم وجدلهم، وكان بناء السورة على هذا الغرض بدليل افتتاحها وختمها، ألا ترى قوله تعالى : ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا وتأنيس نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله : فلا يغررك تقلبهم في البلاد فقد تقدم ذلك من غيرهم فأعقبهم سوء العاقبة والأخذ الوبيل كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه فعصمتهم واقية إنا لننصر رسلنا وقال تعالى: وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب أي: رأيت ما حل بهم وقد بلغك خبرهم، فهلا اعتبر هؤلاء بهم

أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق وإنما أخذهم بتكذيبهم الآيات ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله ثم ذكر تعالى من حزب المكذبين فرعون وهامان وقارون، وبسط القصة تنبيها على سوء عاقبة من عاند وجادل بالباطل وكذب الآيات، ثم قال تعالى بعد آيات: إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في [ ص: 139 ] صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه إذ الحول والقوة ليست لهم ، فاستعذ بالله من شرهم، فخلق غيرهم له استبصروا أعظم من خلقهم ، لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس وهم غير آمنين من الأخذ من كلا الخلقين . إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء ثم قال تعالى بعد هذا: ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون إن أمرهم لعجيب في صرفهم عن استيضاح الآيات بعد بيانها، ثم ذكر تعالى سوء حالهم في العذاب الأخروي وواهي اعتذارهم بقولهم : ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا ثم صبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: فاصبر إن وعد الله حق ثم أعاد تنبيههم فقال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض إلى ختم السورة، ولم يقع من هذا التنبيه الذي دارت عليه أي هذه السورة في سورة الزمر شيء ولا من تكرار التحذير من تكذيب الآيات، فلما بينت على هذا الغرض أعقبت بذكر الآية العظيمة التي تحديت بها العرب، وقامت بها حجة الله سبحانه على الخلق، وكان قيله لهم: احذروا ما قدم لكم، فقد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم بأوضح آية وأعظم برهان تنـزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا وتضمنت هذه السورة العظيمة من بيان عظيم الكتاب وجلالة قدره وكبير الرحمة به ما لا يوجد في غيرها من أقرانها كما أنها في الفصاحة [ ص: 140 ] تبهر العقول بأول وهلة، فلا يمكن العربي الفصيح في شاهد برهان أدنى توقف، ولا يجول في وهمه إلى معارضة بعض آيها أدنى تشوف، وأنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي فوبخهم سبحانه وتعالى وأدحض حجتهم وأرغم باطلهم وبكت دعاويهم ثم قال: قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيدإنما يستجيب الذين يسمعون وقرعهم تعالى في ركيك جوابهم عن واضح حجته بقولهم: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر وقولهم: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه وهذه شهادة منهم على أنفسهم بالانقطاع عن معارضته، وتسجيلهم بقوة عارضته، ثم فضحهم بقوله: قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به - الآية، وتحملت السورة مع هذا بيان هلاك من عاند وكذب ممن كان قبلهم وأشد قوة منهم، وهم الذين قدم ذكرهم مجملا في سورة غافر في آيتي أولم يسيروا في الأرض [ أفلم يسيروا ] فقال تعالى مفصلا [ ص: 141 ] لبعض ذلك الإجمال فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ثم قال: فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ثم قال تعالى: فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا الآية، ثم قال: وأما ثمود فبين [تعالى] حالهم وأخذهم، فاعتضد التحام السورتين، واتصال المقصدين - والله أعلم - انتهى.

التالي السابق


الخدمات العلمية