صفحة جزء
ولما أخبر بهذا الذي يفتت الحجارة لو علقت ساعة ما، أخبر أنه لم يفدهم الرجوع عن طبعهم الجافي وبلادتهم الكثيفة، فقال عاطفا على ما تقديره: فلم تفدهم هذه الشهادة خجلا من الله ولا خضوعا في أنفسهم ولا رجوعا عن الجدال والعناد كما لم يفدهم ذلك مجرد علم الله [ ص: 170 ] فيهم: وقالوا لجلودهم ودخل فيها ما صرح به من منافعها بها لفقد ما يدعو إلى التفصيل. ولما فعلت فعل العقلاء خاطبوها مخاطبتهم فقالوا: لم شهدتم علينا

ولما كان هذا محل عجب منهم، وكان متضمنا لجهلهم بظنهم أنه كان لها قدرة على السكوت، وكان سؤالهم عن العلة ليس على حقيقته وإنما المراد به اللوم، أجيب من تشوف إلى الجواب بقوله معبرا لنطقها بصيغة ما يعقل: قالوا [معتذرين]: أنطقنا قهرا الله الذي له مجامع العز على وجه لم نقدر على التخلف عنه. ولما كان حال الكفار دائما دائرا بين غباوة وعناد، أقاموا لهم على ذلك دليلين شهوديين فقالوا: الذي أنطق كل شيء أي: فعلا أو قوة أو حالا ومقالا.

ولما كانت الأشياء كلها متساوية الأقدام في الإنطاق والإخراس وغيرهما من كل ما يمكن بالنسبة إلى قدرته سبحانه، نبهوهم على ذلك بقولهم: وهو خلقكم أول مرة والعلم القطعي حاصل عندكم بأنكم كنتم عدما ثم نطفا لا تقبل النطق في مجاري العادات بوجه، ثم طوركم في أدوار الأطوار كذلك إلى أن أوصلكم إلى حيز الإدراك، فقسركم [ ص: 171 ] على النطق بحيث لو أردتم سلبه عن أنفسكم ما قدرتم. ولما كان الخلق شيئا واحدا فعبر عنه بالماضي وكان الرجوع تارة بالحس وتارة بالمعنى وكان الذي بالمعنى كثير التعدد بكثرة التجدد قال: وإليه [أي]: إلى غيره ترجعون أي: في كل حين بقسركم بأيسر أمر على كل ما يريد من أول ما خلقتم إلى ما لا نهاية له، فلو كان لكم نوع علم لكفاكم ذلك واعظا في الدنيا تعلمون به أنكم في غاية العجز، وأن له العظمة والكبر والقدرة والقهر، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل تدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز إلا شاهدا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك [اليوم] شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل" .

التالي السابق


الخدمات العلمية