صفحة جزء
ولما ذكر وعيدهم في الدنيا والآخرة، أتبعه كفرهم الذي هو سبب الوعيد، وعطفه على ما تقديره: فإنا طبعناهم طبيعة سوء تقتضي أنهم لا ينفكون عما يوجب العتب، فأعرضوا ولم تنفعهم النذرى بصاعقة عاد وثمود، فقال صارفا القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى أن التصرف في القلوب أمر عظيم جدا: وقيضنا أي: جئنا وأتحنا وبعثنا وسببنا ووكلنا وهيأنا، من القيض الذي هو المثل، وقشر البيضة الأعلى اليابس لهم قرناء أي: أشخاصا أمثالهم في الأخلاق والأوصاف [ ص: 175 ] أقوياء وهم مع كونهم شديدي الالتصاق بهم والإحاطة في غاية النحس والشدة في اللؤم والخبث واللجاجة فيما يكون به ضيق الخير واتساع الشر من غواة الجن والإنس فزينوا لهم أي: من القبائح ما وعم الأشياء كلها فلم يأت بالجار فقال: بين أيديهم أي: يعلمون قباحته حتى حسنوه لهم فارتكبوه ورغبوا فيه وما خلفهم [أي: ما يجهلون أمره ولا يزالون] في كل شيء يزينونه ويلحون فيه ويكررونه حتى يقبل، فإن التكرير مقرون بالتأثير، قال القشيري: إذا أراد الله بعبد سوءا قيض له إخوان سوء وقرناء سوء يحملونه على المخالفات ويدعونه إليها، وإذا أراد الله بعبد خيرا قيض له قرناء خير يعينونه على الطاعات ويحملونه عليها ويدعونه إليها، ومن ذلك الشيطان، وشر منه النفس وبئس القرين، تدعو اليوم إلى ما فيه الهلاك وتشهد غدا عليه.

ولما كان التقدير: فلم يدعوا قبيحة حتى ارتكبوها، عطف عليه قوله: وحق أي: وجب وثبت عليهم القول أي: بدوام الغضب.

ولما كان هذا مما يوجب شدة أسفه صلى الله عليه وسلم، خفف منه بقوله: في أي: كائنين في جملة أمم أي [ ص: 176 ] كثيرة. ولما عبر عنهم بما يقتضي تعظيمهم بأنهم مقصودون، حقرهم بضمير التأنيث فقال: قد خلت أي: لم تتعظ أمة منهم بالأخرى. ولما كان الخلو قد يكون بالموت في زمانهم، بين أنه مما مضى وفات.

ولما كان بعض من مضى غير مستغرق لجميع الزمان، عبر بـ "من" فقال: من قبلهم أي: في الزمان، وقدم الأقوى لتفهم القدرة عليه القدرة على ما دونه من باب الأولى، فإن الإنس كانوا يعدون أنفسهم دون الجن فيعوذون بهم فقال: من الجن والإنس ثم علل حقوق الشقاء عليهم بقوله منبها بالتأكيد على أنهم ينكرون أن تكون القبائح موجبة للخسر إنهم أي: جميع المذكورين منهم وممن قبلهم: كانوا أي: طبعا وفعلا خاسرين فعلى العاقل أن يجتهد في اختيار أصحابه وأخدانه وأحبابه، فإن العاقبة فيهم حسنة جسيمة أو قبيحة وخيمة، روى صاحب الفردوس عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"إذا أراد الله بعبد شرا قيض له قبل موته [ ص: 177 ] شيطانا فلا يرى [حسنا] إلا قبحه ولا قبيحا إلا حسنه عنده" . ولأحمد وأبي داود والنسائي وأبي يعلى وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله بالوالي خيرا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه" . وروى [ البخاري ] عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما والنسائي عن أبي هريرة وحده رضي الله عنه والبخاري أيضا عن أبي أيوب رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله تعالى" . وفي رواية النسائي : "ما من وال إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، فمن وقي شرها فقد وقي، [وهو إلى من يغلب عليه منهما" ، ورواية البخاري عن أبي أيوب نحوها.

التالي السابق


الخدمات العلمية