صفحة جزء
ولما تفضل سبحانه وتعالى على الإنسان بعد الأعمال التي هيأه لها وأقدره عليها ووفقه لها أسبابا قرن بالوصية بطاعته - لكونه المبدع - الوصية بالوالدين لكونه تعالى جعله سبب الإيجاد، فقال في هذا السياق [ ص: 145 ] الذي عد فيه الأعمال [لكونه] سياق الإحسان التي أفضلها الصلاة على ميقاتها، وثانيها في الرتبة بر الوالدين كما في الصحيح، وفي الترمذي : «رضى الله في رضى الوالدين وسخطه في سخطهما». وعلى هذا المنوال جرت عادة القرآن يوصي بطاعة الوالدين بعد الأمر بعبادته وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا [ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ] وكذا ما بعدهما عاطفا على ما قدرته أو السورة من [نحو] أن يقال: وأمرنا الناس أجمعين أن يكونوا بطاعتنا في مهلة الأجل عاملين ولمعصيتنا مجتنبين: ووصينا الإنسان أي: هذا النوع الذي أنس بنفسه بوالديه ولما استوفى "وصى" مفعوليه كان التقدير: ليأتي إليهما حسنا، وقرأ الكوفيون: إحسانا وهو أوفق للسياق.

ولما كان حق الأب ظاهرا لا له من الكسب والإنفاق والذب والتأديب لم يذكره، وذكر ما للأم لأن أمده يسير، فربما استهين به فقال مستأنفا أو معللا: حملته أمه أي: بعد أن وضعه أبوه [ ص: 146 ] بمشاركتها في أحشائها، حملا كرها بثقل الحبل وأمراضه وأوصابه وأعراضه ووضعته أي: بعد تمام مدة حمله كرها فدل هذا - مع دلالته على وجوب حق الأم - على أن الأمر في تكوينه لله وحده، وذكر أوسط ما للأم من مدة التعب بذكر أقل مدة الحمل وأنهى مدة الرضاع لانضباطها فقال تعالى: وحمله وفصاله أي: [و] مدة حمله وغاية فطامه من الرضاع، وعبر بالفصال لإرادة النهاية لأن الفطام قد يكون قبل النهاية لغرض ثم تظهر الحاجة فتعاد الرضاعة ثلاثون شهرا فانصرف الفصال إلى الكامل الذي تقدم في البقرة فعرف أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وبه قال الأطباء، وربما أشعر بأن أقل مدة الرضاع سنة وتسعة أشهر؛ لأن أغلب الحمل تسعة أشهر.

ولما كان ما بعد ذلك تارة يشترك في مؤنته الأبوان وتارة ينفرد أحدهما، طوى ذكرهما، وذكر حرف الغاية مقسما للموصى إلى قسمين: مطيع وعاصي، ذاكرا ما لكل من الجزاء بشارة ونذارة، إرشادا إلى أن المعنى: واستمر كلا على أبويه أو أحدهما حتى إذا بلغ أشده قال في القاموس: قوته، وهو ما بين ثماني [ ص: 147 ] عشرة سنة إلى ثلاثين، واحد جاء على بناء الجمع كآنك ولا نظير لهما، أو جمع لا واحد له من لفظه، أو واحده شدة بالكسر مع [أن] فعلة لا تجمع على أفعل، أو شد ككلب وأكلب أو شد كذئب وأذؤب، وما هما بمسموعين بل قياس. انتهى.

وقد مضى في سورة يوسف ما ينفع هنا جدا، وروى الطبراني في ترجمة [ابن] أحمد بن لبيد البيروتي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الأشد ثلاث وثلاثون سنة، وهو الذي رفع عليه عيسى ابن مريم، قال الهيثمي: وفيه صدقة بن يزيد وثقه أبو زرعة وأبو حاتم وضعفه أحمد وجماعة وبقية رجاله ثقات، قال الزمخشري : وهو أول الأشد وغايته الأربعون.

ولما كانت أيام الصبا والشباب وإن كانت صفوة عمر الإنسان وأوقات لذاذته ومجتمع شمله وراحاته فيها يظهر له سر عمره في الغالب لغلبة الأنفس الخبيثة عليه البهيمية والسبعية لما يحملانه عليه من نتائج الشهوات ونوازع [ ص: 148 ] الغضب والبطالات، عبر بما يدل على القحط والشؤم والضيق تنبيها على ذلك، فقال شارحا للاستواء ومعبرا عنه: [ وبلغ أربعين سنة ] فاجتمع أشده وتم حزمه وجده، وزالت عنه شرة الشباب وطيش الصبا ورعونة الجهل، ولذلك كان هذا السن وقت بعثة الأنبياء، وهو يشعر بأن أوقات الصبا أخف في المؤاخذة مما بعدها وكذا ما بين أول الأشد والأربعين قال إن كان محسنا قابلا لوصية ربه: رب أي: أيها المحسن إلي بالإيجاد وتيسير الأبوين وغيرهما وتسخيره أوزعني أي اجعلني أطيق أن أشكر نعمتك أي: وازعا للشكر؛ أي كافا مرتبطا حتى لا يغلبني في وقت من الأوقات، وذلك الشكر بالتوحيد في العبادة كما أنه يوحد بنعمة الإيجاد والترزيق، ووحدها تعظيما للأمر بالإشارة إلى أن النعمة الواحدة لا يبلغ شكرها إلا بمعونة الله مع أن ذكر الأبوين يعرف أن المراد بها الجنس.

ولما كان ربما ظن ظان أن المراد بنعمته قدرته على الإنعام ليكون المعنى: أن أشكر لك لكونك قادرا على الإنعام، قال: التي أنعمت علي [ ص: 149 ] أي بالفعل لوجوب ذلك علي لخصوصه بي وعلى والدي ولو بمطلق الإيجاد والعافية في البدن، لأن النعمة عليهما نعمة علي، وقد مضى في النمل ما يتعين استحضاره هنا.

ولما كان المقصود الأعظم من النعمة الماضية نعمة الإيجاد المراد من شكرها التوحيد، أتبعها [تمام] الشكر فقال: وأن أعمل أي: أنا في خاصة نفسي [ صالحا ]. ولما كان الصالح في نفسه قد يقع الموقع لعدم الإذن فيه قال: ترضاه والتنكير إشارة إلى العجز عن بلوغ الغاية فإنه لن يقدر الله حق قدره أحد.

ولما دعا لنفسه بعد أن أوصى برعاية حق أبيه، لقنه سبحانه الدعاء لمن يتفرع منه، حثا على رعاية حقوقهم لئلا يسلطهم على عقوقه فقال: وأصلح أي: أوقع الإصلاح، وقال: لي في ذريتي لأن صلاحهم يلحقه نفعه، والمراد بقصر الفعل وجعلهم ظرفا له أن يكون ثابتا راسخا ساريا فيهم وهم محيطون به فيكونوا صالحين.

ولما استحضر عند كمال العقل في الأربعين أن ما مضى من العمر كان أغلبه ضائعا فدعا، وكان من شرط قبول الدعاء التوبة، علله بقوله: إني تبت أي: رجعت إليك أي: عن كل ما يقدح في الإقبال [ ص: 150 ] عليك، وأكده إعلاما بأن حاله في الإقبال على الشهوات حال من يبعد منه الإقلاع فينكر إخباره به، وكذا قوله: وإني من المسلمين أي: الذين أسلموا ظواهرهم وبواطنهم لك فانقادوا أتم انقياد وأحسنه.

التالي السابق


الخدمات العلمية