صفحة جزء
ولما دل ما أخبر به أولا عن المشاققين على أنهم مغلوبون في الدنيا خاسرون في الآخرة، وكانت الخسارة في الآخرة مشروطة بشرط، علل ما أمر به المؤمنون هنا من الطاعة ونهوا عنه من إبطال الأعمال بالمعصية، [زيادة] في حثهم على ما أمر به بعلتين كل منها مستقل بامتثال أمره واجتناب نهيه: إحداهما عدم المغفرة، والثانية بطلان الأعمال والأموال بكون الدنيا لا حقيقة لها، وقدم الأولى لأن الثانية - وهي أن الدنيا لعب - كالعلة الحاصلة على ما أوجبها، ومن حسن التعليم بيان الحكم ثم تعليله بأقرب ما يحمل عليه أو يصد عنه، فكأنه قيل: لا تبطلوها بالصد عن سبيل الله الحامل عليه الإقبال على الدنيا التي هي عين الباطل؛ فإنكم إن فعلتم ذلك فاتتكم المغفرة، وذلك من معنى قوله تعالى مؤكدا لإنكارهم مضمونه: إن الذين كفروا أي: أوقعوا الكفر بفعلهم فعل الساتر لما دله عليه عقله من آيات الله المرئية ثم المسموعة وصدوا عن سبيل الله أي: طريق الملك الأعلى الواضح المستقيم الموصل إلى كل ما ينبغي أن يقصد كل من أراده بتماديهم على باطلهم وأذاهم لمن خالفهم.

ولما كان هذا أمرا قبيحا من جهات عديدة لما فيه من مخالفة [ ص: 262 ] الملك الأعظم المرهوب بطشه المحذورة سطوته، ومن ترك الواسع إلى الضيق والمستقيم إلى المعوج والموصل إلى الفوز [إلى] الموصل إلى الخيبة، فكان التمادي فيه في غاية البعد، نبه على ذلك بأداة التراخي فقال: ثم ماتوا أي: بعد المد لهم في مضمارهم بالتطويل في أعمارهم وهم أي: والحال أنهم كفار ولما كان السبب الأعظم في الإحباط الموت على الكفر، نبه عليه بالفاء الدالة على ربط الجزاء بالشرط وتسببه عنه فقال مؤكدا [له] لإنكارهم ذلك: فلن يغفر الله أي: المحيط بجميع صفات الكمال التي تمنع من تسوية المسيء بالمحسن لهم فلا يمحو ذنوبهم ولا يستر عيوبهم، بل يفضح سرائرهم ويوهن كيدهم ويردهم على أعقابهم في كل ما يتقلبون فيه؛ لأنهم قد أبطلوا أعمالهم بالخروج عن دائرة الطاعة، فلم يبق لهم ما يغفر لهم بسببه، وقد دلت هذه الآية على ما دلت عليه آية البقرة من أن إحباط العمل في المرتد مشروط بالموت على الكفر.

التالي السابق


الخدمات العلمية