1. الرئيسية
  2. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
  3. سورة الحديد
  4. قوله تعالى اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد
صفحة جزء
ولما ذكر [سبحانه] حال الفريقين: الأشقياء والسعداء، فتقرر بذلك أمر الآخرة، فعلموا أنها الحيوان الذي لا انقضاء له من إكرام أو هوان، وكان الموجب للهوان فيها إنما هو الإقبال على الدنيا لحضورها ونسيان الآخرة لغيابها، قال منتجا مما مضى مبينا لحقيقة ما يرغب فيه المكلف المركب على الشهوة من العاجلة بما نزهه فيه مصدرا له بما يوجب [ ص: 287 ] غاية اليقظة والحضور: اعلموا أي أيها العباد المبتلون، وأكد المعنى بزيادة " ما " [لما] للناس من الغفلة عنه فقال قاصرا قصر قلب: أنما الحياة الدنيا أي الحاضرة التي رغبت في الزهد فيها والخروج عنها بالصدقة والقرض الحسن لعب أي تعب لا ثمرة له فهو باطل كلعب الصبيان ولهو أي شيء يفرح الإنسان به فيلهيه ويشغله عما يعنيه ثم ينقضي كلهو الفتيان، ثم أتبع ذلك عظم ما يلهي في الدنيا فقال: وزينة أي شيء يبهج العين ويسر النفس كزينة النسوان، وأتبعها ثمرتها فقال: وتفاخر أي كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض.

ولما كان ذلك مخصوصا بأهل الشهوات قال: بينكم أي يجر إلى الترفع الجار إلى الحسد والبغضاء، ثم أتبع ذلك ما يحصل به الفخر فقال: وتكاثر أي من الجانبين في الأموال أي التي لا يفتخر بها إلا أحمق لكونها مائلة والأولاد الذين لا يغتر بهم إلا سفيه لأنهم الأعداء، وأن جميع ما ذكر زائل وأن الدنيا آفاتها هائلة، وإنما هي فتنة وابتلاء يظهر بها الشاكر من غيره، ثم إلى ذلك كله قد يكون ذهابه عن قرب فتكون على أضداد ما كان عليه، فيكون أشد في الحسرة، ومطابقة ذلك لما بعده أن الإنسان ينشأ في حجر وليه فيشب ويقوى ويكسب المال والولد وتغشاه الناس فيكون بينهم أمور معجبة وأحوال ملهية مطربة، فإذا تم شبابه وأطفأه مجيؤه وذهابه [ ص: 288 ] وأشكاله وأترابه، أخذ في الانحطاط ولا يزال حتى يشيب ويسقم ويضعف ويهرم وتصيبه النوائب والقوارع والمصائب في ماله وجسمه وأولاده وأصحابه، ثم في آخر ذلك يموت، فإذا قد اضمحل أمره ونسي عما قليل ذكره، وصار ماله لغيره وزينته متمتعا بها سواه فالدنيا حقيرة وأحقر منها طالبها وأقل منها خطر المزاحم فيها، فما هي إلا جيفة، وطلاب الجيفة ليس لهم خطر، وأخسهم من بخل بها، قال القشيري: وهذه الدنيا المذمومة هي ما يشغل العبد عن الآخرة [فكل ما يشغله عن الآخرة] فهو الدنيا - انتهى.

ولما قرر سبحانه أنها ظل زائل وعرض هائل، وكان بعض الناس يتنبه فيشكر وبعضهم يعمى فيكفر، و كان القسم الثاني أكثر لأن وجودها وإقبالها يعمي أكثر القلوب عن حقارتها، ضرب لذلك مثلا مقررا لما مضى من وصفها لأن للأمثال في تقرير الأشياء وتصويرها ما ليس لغيرها فقال تعالى: كمثل أي هذا الذي ذكرته من أمرها يشبه مثل غيث أي مطر حصل بعد جدب [و]سوء حال.

ولما كان المثل في سياق التحقير للدنيا والتنفير عنها، عبر عن الزارع بما ينفر فقال: أعجب الكفار أي الزراع الذين حصل منهم الحرث والبذر الذي يستره الحارث بحرثه كما يستر الكافر حقيقة أنوار الإيمان لما يحصل من الجحد والطغيان ولا يتناهى إعجاب الزارع [إلى] [ ص: 289 ] حد يلهي عن الله إلا مع الكفر به سبحانه ، فإن المؤمن وإن أعجبه ذلك يتذكر به قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته وما أعد لأهل طاعته في الآخرة، فيحمله ذلك على الطاعة، فالتعبير بالكفار الذي هو بمعنى الزراع دونه إشارة إلى عظمة ذلك النبات فإنه لا يعجب العارفين به الممارسين له الذين لهم غاية الإقبال على تلك الحرفة فالمنافسة فيها إلا ما يكون منها نهاية في الإعجاب، وإلى أنه لا يعجب أحدا شيء من الدنيا إعجابا يركن ويأنس به أنسا يؤدي إلى ما في الآية من اللهو وما معه إلا لكفر في نفسه أقله كفر النعمة التي من شأنها أن تدعو إلى تذكر الخالق وتذكر الجميل على الشكر، وترك الشكر كفر نباته أي نبات ذلك الغيث كما يعجب الكافر في الكفر في الغالب بسط الدنيا له استدراجا من الله تعالى.

ولما كان الزرع يشيخ بعد مديدة فيضمحل كما هو شأن الدنيا كلها قال: ثم يهيج أي يسرع تحركه فيتم جفافه فيحين حصاده فتراه مصفرا أي عقب ذلك بالقرب منه على حالة لا ثمر معها [بل] ولا نبات، ولذلك قال معبرا بالكون لأن السياق للتزهيد في الدنيا وأنها ظل زائل لا حقيقة لها: ثم أي بعد تناهي جفافه وابيضاضه يكون أي كونا كأنه مطبوع عليه، وأبلغ سبحانه في تقرير اضمحلاله بالإتيان مع فعل الكون هنا للمبالغة لأن السياق لتقرير [ ص: 290 ] أن الدنيا عدم وإن كانت في غاية الكثرة والإقبال والمؤاتاة بخلاف ما مضى في الزمر فقال: حطاما كأن الحطامية كانت في جبلته وأصل طبعه.

ولما ذكر الظل الزائل، ذكر أثره الثابت الدائم مقسما له على قسمين، فقال عاطفا على ما تقديره هذا حال الدنيا في سرعة زوالها وتحقق فنائها [واضمحلالها]: وفي أي هذا الذي غر من حال الدنيا وهو في الآخرة على أحدهما عذاب شديد أي لمن أخذها بغير حقها معرضا عن ذكر الله لأن الاغترار بها سببه، فكان كأنه هو.

ولما قدم ما هو السبب الأغلب لأن أكثر الخلق هالك، أتبعه الصنف الناجي. فقال: ومغفرة أي لأهل الدرجة الأولى في الإيمان من الله أي الملك الأعظم لمن يذكر بما صنعه له في الدنيا عظمته سبحانه وجلاله فتاب من ذنوبه، ورجع إليه في التطهير من عيوبه ورضوان لأهل الدرجة العليا وهم من أقبل عليه سبحانه فشكره حق شكره ببذل وسعه فيما يرضيه، فآخر الآية تقسيم للدنيا على الحقيقة لئلا يظن من حصرها فيما ذكر أول الآية أنها لا تكون إلا كذلك، فالمعنى أن الذي ذكره أولا هو الأغلب لأحوالها وعاقبته النار، وما كان منها من إيمان وطاعة ونظر توحيد لله وتعظيم ومعرفة تؤدي إلى [ ص: 291 ] أخذها تزودا ونظرها اعتبارا وتعبدا، فهو آخرة لا دنيا، وقد تحرر أن مثل الغيث المذكور الحطام وتارة يعقبه نكد لازم وأخرى سرور دائم، فمن عمل في ذلك عمل الحزمة فحرس الزرع مما يؤذيه وحصده في وقته وعمل فيه ما ينبغي ولم ينس حق الله فيه سره أثره وحمدت عاقبته، ومن أهمل ذلك [أعقبه الأسف، وذلك هو مثل الدنيا: من عمل فيها بأمر الله أعقبته حطاميتها سرورا دائما، ومن أهمل ذلك] أورثته حزنا لازما، وكما كان التقدير: فما الآخرة لمن سعى لها سعيها وهو مؤمن إلا حق مشهور وسعي مشكور، عطف عليه قوله: وما الحياة الدنيا أي لكونها تشغل بزينتها مع أنها زائلة إلا متاع الغرور أي لهو في نفسه [غرور] لا حقيقة له إلا ذلك، لأنه لا يجوز لمن أقبل على التمتع إلا ذلك لأنه لا يسر بقدر ما يضر.

التالي السابق


الخدمات العلمية