صفحة جزء
ولما ذكر مضارة الجمع أتبعه مضارة الإغارة على الحق؛ والأول جمع بين المنكوحين؛ وهذا جمع بين الناكحين؛ فقال - عاطفا على النائب عن فاعل "حرمت":- [ ص: 233 ] والمحصنات ؛ أي: الحرائر المزوجات؛ لأنهن منعت فروجهن بالنكاح عن غير الأزواج؛ من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ؛ أي: من أزواج أهل الحرب؛ فإن الملك بالأسر يقطع النكاح.

ولما أتم ذلك قال - مؤكدا له؛ ومبينا عظمته -: كتاب الله ؛ أي: خذوا فرض الملك الأعظم؛ الذي أوجبه عليكم إيجاب ما هو موصول في الشيء بقطعه منه؛ والزموه غير ملتفتين إلى غيره؛ وزاد في تأكيده بأداة الوجوب؛ فقال: عليكم ؛ ولما أفهم ذلك حل ما سواه؛ أفصح به احتياطا للإيضاح؛ وتعظيما لحرمتها؛ في قوله: وأحل لكم ؛ وبين عظمة هذا التحريم بأداة البعد؛ فقال: ما وراء ذلكم ؛ أي: الذي ذكر لكم من المحرمات العظيمة؛ ولما كان الكلام في المنع لم يصرح بالفاعل؛ بل قال; "حرمت"؛ ترفقا في الخطاب؛ حثا على الآداب؛ فلما وصل الأمر إلى الحل أظهره؛ تطييبا للقلوب؛ وتأنيسا للنفوس؛ في قراءة ابن كثير؛ ونافع؛ وأبي عمرو وابن عامر؛ بفتح الهمزة والحاء؛ وأبهمه في قراءة الباقين؛ على نسق "حرمت"؛ لأن فاعل الحل والحرمة عند أهل هذا الكتاب معروف أنه الملك الأعلى؛ الذي لا أمر لأحد معه أصلا؛ ثم أتبع التحليل علته؛ فقال: أن ؛ أي: إرادة أن تبتغوا ؛ أي: تطلبوا؛ متبعين من شئتم مما أحل لكم؛ بأموالكم ؛ اللاتي تدفعونها مهورا؛ [ ص: 234 ] حال كونكم؛ محصنين ؛ أي: قاصدين بذلك العفة لأنفسكم؛ ولهن؛ غير مسافحين ؛ أي: قاصدين قضاء الشهوة؛ وصب الماء الدافق لذلك فقط؛ وهو على هذا الوجه لا يكون إلا زنا؛ سرا وجهرا؛ فيكون فيه حينئذ إضاعة المال؛ وإهلاك الدين؛ ولا مفسدة أعظم مما يجمع هذين الخسرانين.

ولما تقدم أول السورة؛ وأثناءها الأمر بدفع الصداق؛ والنهي عن أخذ شيء مما دفع إلى المرأة؛ وكان ذلك أعم من أن يكون بعد الدخول؛ أو قبله؛ مسمى أو لا؛ قال هنا - مسببا عن الابتغاء المذكور -: فما استمتعتم ؛ أي: أوجدتم المتاع؛ وهو الانتفاع؛ به منهن ؛ بالبناء بها؛ متطلبين لذلك من وجوهه الصحيحة؛ راغبين فيه؛ فآتوهن أجورهن ؛ أي: عليه كاملة؛ وهي المهور؛ فريضة ؛ أي: حال كونها واجبة من الله؛ ومسماة؛ مقدرة؛ قدرتموها على أنفسكم؛ ويجوز كونه تأكيدا لـ "آتوا"؛ بمصدر من معناه؛ ولا جناح ؛ أي: حرج؛ وميل؛ عليكم فيما تراضيتم به ؛ أي: أنتم والأزواج؛ من بعد الفريضة ؛ أي: من طلاق؛ أو فراق؛ أو زيادة؛ أو نقص؛ إن كانت موجودة؛ مقدرة؛ أو من مهر المثل؛ من بعد تقديره إن لم تكن مسماة فيمن عقد عليها؛ من غير تسمية صداق.

ولما ذكر في هذه الآيات أنواعا من التكاليف؛ هي في غاية الحكمة؛ والتعبير عنها في الذروة العليا من العظمة؛ وختمها بإسقاط الجناح عند الرضا؛ وكان الرضا أمرا باطنا لا يطلع عليه حقيقة إلا الله (تعالى) ؛ [ ص: 235 ] حث على الورع في شأنه بنوط الحكم بغلبة الظن؛ فقال - مرغبا في امتثال أوامره؛ ونواهيه -: إن الله ؛ أي: الذي له الإحاطة التامة علما؛ وقدرة؛ كان عليما ؛ أي: بمن يقدم متحريا لرضا صاحبه؛ أو غير متحر لذلك؛ حكيما ؛ أي: يضع الأشياء في أمكن مواضعها من الجزاء على الذنوب؛ وغيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية