1. الرئيسية
  2. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
  3. سورة الحشر
  4. قوله تعالى ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل
صفحة جزء
ولما نزع سبحانه أموالهم من أيدي الجيش، بين مصرف غيرها مما كان مثلها بأن فتح له صلى الله عليه وسلم بغير قتال فقال مستأنفا جوابا لمن كأنه قال: هل يعم هذا الحكم كل فيء يكون بعد بني النضير: ما أفاء الله أي الذي اختص بالعزة والحكمة والقدرة على رسوله ولما كان سبحانه محيط العلم بأنه يسلط على أهل وادي القرى وغيرهم [ ص: 428 ] أعظم من هذا التسليط، قال ليكون علما من أعلام النبوة: من أهل القرى أي قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية فلله أي الملك الأعلى الذي الأمر كله بيده وللرسول لأنه أعظم خلقه، فرتبته تلي رتبته، وهذان يتراءى أنهما قسمان وليس كذلك، هما قسم واحد، ولكنه ذكر سبحانه نفسه المقدس تبركا، فإن كل أمر لا يبدأ به فهو أجذم، وتعظيما لرسوله صلى الله عليه وسلم إعلاما بأنه لا هوى له أصلا في شيء من الدنيا. وإنما رضاه رضا مولاه، خلقه القرآن الذي هو صفة الله [فهو] مظهره ومجلاه، وسهمه صلى الله عليه وسلم يصرف بعده لمصالح المسلمين كالسلاح والثغور والعلماء والقضاة والأئمة.

ولما أبان هذا الكلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل والعظمة ما لا يدخل تحت الوصف، أتبعه تعظيما آخر بتعظيم أقاربه لأجله، ولذلك أعاد العامل فقال: ولذي القربى أي منه لأن رتبتهم من بعد رتبته وهم بنو هاشم وبنو المطلب رهط إمامنا الشافعي رضي الله عنه سواء فيه غنيهم وفقيرهم، لأن أخذهم لذلك بالقرابة لا بالحاجة كما هو مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه. ولما ذكر أهل الشرف، أتبعه أهل الضعف جبرا لوهنهم فقال مقدما أضعفهم: واليتامى [ ص: 429 ] [أي] الذين هم أحق الناس بالعطف لأن مبنى الدين على التخلق بأخلاق الله التي من أجلها تقوية الضعيف وجبر الكسير والمساكين [فإنهم] في الضعف [على إثرهم] ودخل فيهم الفقراء فإنه إذا انفرد لفظ الفقير أو المساكين دخل كل منهما في الآخر، وإنما يفرق إذا جمع بينهما، وكذا الفيء والغنيمة إذا أفردا جاز أن يدخل كل في الآخر، وإذا جمعا فالفيء ما حصل بغير قتال وإيجاف خيل وركاب، والغنيمة ما حصل بذلك وابن السبيل وهم الغرباء لانقطاعهم عن أوطانهم وعشائرهم، وقسمة الفيء على هذه الأصناف كما مضى أن يقسم خمسة أقسام: خمس منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم [و]من ذكر معه من المخلوقين وذكر الله فيهم للتبرك، لأن الأصناف المذكورة هي التي يعبر عنها باسمه سبحانه، والأربعة الأخماس خاصة له صلى الله عليه وسلم ينفق منها نفقة سنة وما فضل عنه أنفقه في مصالح المسلمين السلاح و[الكراع و]نحوه، وما كان له صلى الله عليه وسلم في حياته فهو للمصالح بعد وفاته، كما كان يفعل بعد ما يفضل عن حاجته، قال الشافعي رضي الله عنه [في الأم]: وما أخذ من مشرك [ ص: 430 ] بوجه من الوجوه غير ضيافة من مر بهم من المسلمين فهو على وجهين لا يخرج منهما، كلاهما مبين في كتاب الله تعالى و[على] سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي فعله فأحدهما الغنيمة، قال الله تعالى في سورة الأنفال:

واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول والوجه الثاني الفيء، وهو مقسوم في كتاب الله في سورة الحشر، قال الله تبارك وتعالى: وما أفاء الله على رسوله منهم - إلى قوله - رءوف رحيم فهذان المالان اللذان خولهما الله من جعلهما له من أهل دينه، وهذه أموال يقوم بها الولاة لا يسعهم تركها. فالغنيمة والفيء تجتمعان في أن فيهما معا الخمس من جميعهما لمن سماه الله تعالى، ومن سماه الله تعالى في الآيتين [معا] سواء مجتمعين غير مفترقين، ثم يفترق الحكم في الأربعة الأخماس بما بين الله عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وفي فعله فإنه قسم أربعة أخماس الغنيمة، والغنيمة هي الموجف عليها بالخيل والركاب لمن حضر من غني وفقير، والفيء وهو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في قرى عرينة التي أفاءها الله عليه أن أربعة أخماسها لرسول الله صلى الله [ ص: 431 ] عليه وسلم خاصة دون المسلمين يضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراه الله عز وجل، ثم ذكر حديث عمر رضي الله عنه من رواية [مالك بن] أوس بن الحدثان رضي الله عنه في خصام علي والعباس رضي الله عنهما، قال الشافعي : فأموال بني النضير التي أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم التي ذكر عمر رضي الله عنه فيها ما بقي منها في يد النبي صلى الله عليه وسلم بعد الخمس وبعد أشياء فرقها النبي صلى الله عليه وسلم منها بين رجال من المهاجرين لم يعط منها أنصاريا [إلا رجلين] ذكرا فقرا وهذا مبين في موضعه، وفي هذا الحديث دلالة على أن عمر رضي الله عنه إنما حكى أن أبا بكر رضي الله عنه وهو أمضيا ما بقي من هذه الأموال التي كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه ما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به فيها، وأنهما لم يكن لهما مما [لم] يوجف عليه المسلمون من الفيء ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهما إنما كانا فيه أسوة للمسلمين، وذلك سيرتهما وسيرة من بعدهما، والأمر الذي لم يختلف فيه أحد من أهل العلم عندنا علمته ولم يزل يحفظ من [ ص: 432 ] قولهم أنه ليس لأحد ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من صفي الغنيمة ولا من أربعة أخماس ما لم يوجف عليه منها، وقد مضى من كان [ينفق] عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه وغيرهن إن كان معهن، فلم أعلم أحدا من أهل [العلم] قال: لورثتهم تلك [النفقة التي كانت لهم، ولا خلاف أن تجعل تلك النفقات حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل فضول غلات تلك] الأموال فيما فيه صلاح الإسلام وأهله، قال الشافعي : والجزية من الفيء وسبيلها سبيل جميع ما أخذ مما أوجف من مال مشرك أن يخمس فيكون لمن سمى الله عز وجل الخمس وأربعة أخماسه على ما سأبينه إن شاء الله تعالى، وكذلك كل ما أخذ من مشرك من [مال] غير إيجاف، وذلك مثل ما أخذ منه إذا اختلف في بلاد المسلمين ومثل ما أخذ منه إذا مات ولا وارث له، وغير ذلك ما أخذ من ماله، وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيء من غير قرى عرينة، وذلك مثل جزية أهل البحرين وهجر وغير ذلك فكان له أربعة أخماسها يمضيها حيث أراد الله عز وجل وأوفى خمسه من جعله الله له - انتهى.

ولما حكم سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في [ ص: 433 ] الجاهلية من [اختصاص] الأغنياء به، بين علته المظهرة لعظمته سبحانه وحسن تدبيره ورحمته فقال معلقا بما علق به الجار: كي لا يكون أي الفيء الذي سيره الله سبحانه بقوته وما خص به نبيه صلى الله عليه وسلم من قذف الرعب في قلوب أعدائه ومن حقه أن يعطاه الفقراء دولة أي شيئا يتناوله أهل الغنى والشرف على وجه القهر والغلبة أثرة جاهلية - هذا على قراءة الجماعة، وقرأ أبو جعفر وهشام عن ابن عامر بالتأنيث من " كان " التامة و دولة بالرفع على أنها فاعل بين الأغنياء منكم يتداولونه بينهم فإنهم كانوا يقولون: من عزيز، ومنه قال الحسن: اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا - يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به، وقيل: الضم اسم للمتداول كالغرفة اسم لما يغترف، والفتح التداول.

ولما كان التقدير: فافعلوا ما أمرتكم من قسمته لمن أمرت بهم، عطف عليه قوله: وما أي وكل شيء آتاكم أي أحضر إليكم وأمكنكم منه الرسول أي الكامل في الرسلية من هذا وغيره فخذوه أي فتقبلوه تقبل من حازه وما نهاكم عنه من جميع الأشياء فانتهوا لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يقول ولا يفعل إلا ما أمره به الله ربه، فمن قبل ذلك هانت عليه الأمور كما ورد (القرآن صعب مستصعب على من تركه ميسر على من طلبه وتبعه) روي أن الآية [ ص: 434 ] نزلت في ناس من الأنصار قالوا: لنا من هذه القرى سهمنا.

ولما كان الكف عما ألفته النفوس صعبا، ولا سيما ما كان مع كونه تمتعا بمال على وجه الرئاسة، رهب من المخالفة فيه بقوله: واتقوا الله أي اجعلوا لكم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علما وقدرة، وعلل ذلك بقوله، معظما له بإعادة الجلالة مؤكدا لأن فعل المخالف فعل المنكر: إن الله أي الذي له وحده الجلال والإكرام على الإطلاق شديد العقاب أي العذاب الواقع بعد الذنب، ومن زعم أن شيئا مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ، لأن الأنفال نزلت في بدر و[هي] قبل هذه بمدة.

التالي السابق


الخدمات العلمية