صفحة جزء
ولما تم دليل الوحدانية بما حصل من التفهيم بالتدني إلى الملك ثم بالتعلي إلى التكبر فأنتج هذه الخاتمة، ابتدأ سبحانه دليلا آخر هو في غاية التنزل والوضوح، فقال مفتتحا بما افتتح به الأول من الترتيب في المراتب الثلاث، غيب الغيب ثم الغيب ثم الظهور على مراتبه، [ ص: 475 ] إعلاما بأنه لا براح عن الإيمان بالغيب، ومن برح عنه هلك هو أي الذي لا شيء يستحق أن يطلق عليه [هذا الضمير] غيره لأن وجوده من ذاته ولا شيء غيره إلا وهو ممكن فهو أهل لأن لا يكون فلا يكون له ظهور ليكون له بطون.

ولما ابتدأ بهذا الغيب المحض الذي هو أظهر الأشياء، أخبر عنه بأشهر الأسماء الذي لم يقع فيه شركة بوجه فقال: الله أي الذي ليس له سمي فلا كفؤ له فهو المعهود بالحق فلا شريك له بوجه. ولما بدأ سبحانه بهذا الدليل الجامع بين الغيب والظهور، ثنى بتنزيل متضمن للعلم والقدرة فهو في غاية الظهور فقال: الخالق أي الذي لا خالق على الحقيقة إلا هو لأن الخلق فرض حد وقدر في مطلق منه لم يكن فيه بعد حد ولا قدر كالحاذي يخلق أي يقدر في الجلد حدا وقدرا لنعل ونحوه وهو سابق للفري والبري ونحوه "سبق العلم العمل" فالخالق في الحقيقة هو الذي كل شيء عنده بمقدار، الذي يقول يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننـزله إلا بقدر معلوم ومن ناشئة القدر الفرق والترتيب، ومن ناشئة [ ص: 476 ] الفرق والترتيب الإحياء والإماتة، ومن معاد الفرق والإحياء والإماتة على أول أمره الجمع والرب، فلا يملك الخلق والفرق إلا من يملك الجمع والرب، وقد أوتي الخلق ملكة ما في الفرق والشتات، ولم يملكوا جمع ما فرقوا ولا إلف ما شتتوا كالقاطع عضوا لا يقدر على لأمه، والهادم بناء لا يقدر على رمه على حده، والكاسر شيئا لا يقدر على وصله، فلأن الخلق لا يحيطون بتقدير ما يسرعون في قدره ولا يقدرون بعد الفرق والفري على رمه ووصله كان المحيط التقدير في الشيء من جميع جهاته وجملة حدوده، القادر على جمع ما فرق الذي كما بدأ أول خلق يعيده هو أحسن الخالقين، وتلايح تحت هذا اللبس في إطلاق اسم الخالق [على الخالق] الحق ذي الحول والقوة والقدرة والإحاطة والإبداء والإعادة، وعلى الخالق من الخلق المقدر بغير إحاطة علم ولا تأصيل حول ولا قدرة، ولا إتمام إبداء لاحظ من إعادة أنه لا خالق إلا الله كما أنه لا معيد لما بدأ إلا الله، وأن ليس إطلاق هذا الاسم على الخلق مبدأ فتنته التي يضل بها من يشاء ويهدي من يشاء، وتحقيق أفراد الخلق لله فيما ظهر على أيدي أهل الملك والملكوت وإحاطة جبروته بما ظهر وما بطن من أعمالهم وصنائعهم، هو أول مجمع من [ ص: 477 ] مجامع التوحيد، وهو أساس لإيمان أمة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث فرض عليهم في الفاتحة إياك نعبد وإياك نستعين فهم خير أمة أخرجت للناس حيث أخلصوا الدين لله، ولموقع الشرك فيه كان القدرية مجوس هذه الأمة.

ولما كان الخالق الحق هو من أتقن التقدير والبرء وإن كان أغلب الخلق لقصورهم لا يفهمون منه إلا مطلق التقدير كما قال شاعرهم:


ولأنت تفري ما خلقت ... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري



أردفه تنبيها على ذلك وتصريحا وتأكيدا قوله: البارئ [أي] الذي يدقق بما وقع به التقدير ويقطعه ويصلحه لقبول الصورة على أتم حال، فإن كان من المحيط العلم كان تمام التهيؤ للصورة على كمال المشيئة فيها، وإن كان ممن لا يحيط علما طرأ له في البرء من النقص عن التمام ما لا يمكن معه حصول المقصود في الصورة، ولا يكاد يقع الإحسان للخلق في مصوراتهم إلا وفاقا لا يعلمون كنهه ولا يثقون بحصوله.

ولما كان من يهيئ الأمور للتصوير قد لا يتقنه قال: المصور [ ص: 478 ] فإن التصوير إتمام تفصيل الخلق الظاهر وإكمال تخطيطه وإحكام أعضائه وهو حد ما انتهى إليه الخلق في الظهور، وليس وراء ظهور الصور كون إلا لطائف تطويرها في إسنان كمالها بعد بعثها بإحيائها بما لها من الروح المقوم لها سواء كان حيوانيا أو غيره إلى غاية كمالها الذي يعطيه المصور لها إفضالا ومزيدا ويظهره إبداعا، ويتضح الفرق جدا بين الأسماء الثلاثة بالبناء فإنه يحتاج أولا إلى مقدر يقدر ما لا بد منه من الحجر واللبن والخشب والحديد ومساحة الأرض وعدد الأبنية وطولها وعرضها، وهذا يتولاه المهندس فيرسمه وهو الخلق ثم يحتاج إلى حجار ينحت الحجارة ويهيئها لتصلح لمواضعها التي تكون فيها من الأبواب وأوساط الجدر وأطرافها وزواياها وغير ذلك، وكذا الخشاب والحداد في الخشب والحديد وهو البرء ثم يأخذ الكل البناء فيضعها مواضعها إلى أن تقوم صورتها التي رسمها المهندس أولا وقدرها، ولا تقوم الصورة بالحق إلا إذا كانت محكمة بحسب الطاقة كما أن البناء يضع الحجارة أولا ثم يجعل الخشب فوقها لا بالاتفاق بل بالحكمة، ولو قلب ذلك لم تثبت الصورة ولم يكن لها الاسم إلا على أقل وجوه الضعف فكل من كان أحكم كان تصويره أعظم، ولذلك [ ص: 479 ] لا مصور في الحقيقة إلا الله الخالق البارئ المصور سبحانه، قال الرازي في اللوامع: والتصوير موجود في كل أجزاء العالم وإن صغر حتى في الذرة والنملة بل في كل عضو من أعضاء النملة، بل الكلام يطول في طبقات العين وعددها وهيئاتها وشكلها ومقاديرها وألوانها، ووجه الحكمة فيها، فمن لم يعرف صورتها لم يعرف مصورها إلا بالاسم المجمل، وهكذا القول في كل صورة لكل حيوان ونبات بل لكل جزء من نبات وحيوان.

ولما علم من هذا أنه لا بد أن يكون المصور بالغ الحكمة، أردفه بقوله تعالى: له أي خاصة لا لغيره الأسماء الحسنى أي من الحكيم وغيره ممن لا يتم التصوير إلا به ولا تدركونه [أنتم] حق إدراكه.

ولما أخبر سبحانه أول السورة أن الكائنات أوجدت تسبيحه خضوعا لعزته وحكمته، ودل على ذلك بما تقدم إلى أن أسمعه الآذان الواعية بالأسماء الحسنى، دل على دوام اتصافه [بذلك] من يحتاج لما له من النقص من الخلق إلى التذكير فعبر بالمضارع فقال: يسبح أي يكرر التنزيه الأعظم من كل شائبة نقص على سبيل التجدد والاستمرار له أي على وجه التخصيص بما أفهمه قصر المتعدي وتعديته باللام ما في السماوات ولما كان هذا المنزه الذي استجلى التنزيه من الأسماء الحسنى قد أشرقت أنفاسه ولطفت أقطاره [ ص: 480 ] وأغراسه حتى صار علويا فرأى الأرض عالية كالسماء لما شاركتها به في الدلالة على تمام كماله فجعلها معها لأنه لا يحتاج إلى تأكيد كالشيء الواحد بإسقاط "ما" وألصقها بها إلاحة إلى ذلك فقال: والأرض فمن تأمل الوجود مجملا ومفصلا، علم تسبيح ذلك كله بنعوت الكمال وأوصاف الجلال والجمال وهو أي والحال أنه وحده العزيز [أي] الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ولا يوجد له مثل، ويعز الوصول إليه ويشتد الحاجة إليه.

ولما كان من يكون بهذه الصفة لا يتم أمره ويثبت كل ما يريده إلا إن كان على قانون الحكمة قال: الحكيم من الحكمة وهي إتقان الحكم وإنهاؤها إلى حد لا يمكن نقضه، والحكم قال الحرالي: المنع عما يترامى إليه المحكوم إيالة عليه وحمله على ما يمتنع منه نظرا له، ففي ظاهره الجهد وفي باطنه الرفق، وفي عاجله الكره، وفي آجله الرضى والروح، فموقعه في الأبدان المداواة "تداووا عباد الله فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء" ، وموقعه في الأديان التزام الأحكام والصبر والمصابرة على مجاهدة الأعمال وجهاد الأعداء ظاهرا من عدو الدين والبغي وباطنا من عدو النفس (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك) [ ص: 481 ] ومن بعض الأهل والولد عدو، والشيطان عدو يجري من ابن آدم مجرى الدم إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا فالحمل على جميع أنواع الصبر والمصابرة ظاهرا بالإيالة العالية هو الحكم والعلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم من قوام أمر عاجلته وحسن العقبى في آجلته من الحكمة، فالحكم مباح التعليم للناس عامة بل واجب أن يتعلم كل امرئ من الأحكام ما يخصه، وأن ينتدب طائفة لعلم ما يعم جميع الناس فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين والحكمة التي هي العلم بما لأجله وجب الحكم من مشروطه التعليم بالتزكية هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [فما يعلمهم الحكمة] إلا بعد التزكية فمن تزكى فهو من أهلها ومن لم يتزك فليس من أهلها، فالحكمة تحلي مرارة جهد العمل بالأحكام فييسر بها ما يعسر دونها، والحكم ضيق الأمر للنفس كما أن السجن ضيق الخلق للبدن، والحكمة توطد محمل ضيق الحكم لأنها تخرج وتؤول إلى سعة الواسع، ولا يتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم.

ولما لم يكن للخلق من العلم إلا بقدر ما يهبهم الله لم يكن لهم من الحكمة إلا مقدار ما يورثهم ولقد آتينا لقمان [ ص: 482 ] الحكمة ولما كان إنما العلم عند الله كان إنما الحكمة حكمة الله وإنما الحكم حكم الله، فهو الحكيم الذي لا حكيم إلا هو - انتهى. وقد علم سر اتباع الأسماء الشريفة من غير عطف، وذاك أنه لما ابتدأ بـ "هو" وأخبر عنه بالاسم العلم الأعظم المفرد المصون الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى، أتبعه تلك الأوصاف العلى من غير عطف إعلاما بأنه لا شيء منها يؤدي جميع معناه بالمفهوم المتعارف عند أهل اللغة، ولذلك جمع بعدها الأسماء إشارة إلى أنه لا يجمع معناه إلا جميع الأوصاف المنزلة في كتبه والمأخوذة عن أوليائه التي استأثر بها في غيبه وليس شيء مما ذكر ههنا مضادا في [المعنى] الظاهري للآخر كالأول والآخر حتى يظن لأجله نقص في المعنى بسبب ترك العطف، وأما ترتيبها هكذا فلأن كل اسم منها كما مضى شارح لما خفي من الذي قبله ومبين للازمه، وموضح لما ألاح أنه من مضمونه، وقد انعطف على افتتاحها ختامها وعانق ابتداؤها تمامها، ووفى مطلعها مقطعها، وزاد وبلغ الغاية من الإرشاد إلى سبيل الرشاد، فسبحان من أنزله برحمته رحمة للعباد، وهاديا إلى الصواب والسداد.

التالي السابق


الخدمات العلمية