1. الرئيسية
  2. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
  3. سورة الممتحنة
  4. قوله تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله
صفحة جزء
ولما أبلغ سبحانه في وعظهم في ذلك، وكانت عادته التربية بالماضين، كان موضع توقع ذلك فقال معبرا بأداة التوقع: قد كانت أي وجدت وجودا تاما، وكان تأنيث الفعل إشارة إلى الرضا بها ولو كانت على أدنى الوجوه لكم أي [أيها] المؤمنون أسوة أي موضع اقتداء وتأسية وتسنن وتشرع وطريقة مرضية حسنة يرغب فيها في إبراهيم أي في قول أبي الأنبياء والذين معه أي [ممن] كانوا قبله من الأنبياء، قال القشيري: وممن آمن به في زمانه كابن أخيه لوط عليهما الصلاة والسلام وهم قدوة أهل الجهاد والهجرة إذ أي حين قالوا وقد كان من آمن به أقل منكم وأضعف لقومهم الكفرة، وقد كانوا أكثر من عدوكم وأقوى وكان لهم فيهم أرحام وقرابات ولهم فيهم رجاء بالقيام والمحاولات.

ولما كان ما ذكر من ضعفهم وقوة قومهم مبعدا لأن يبارزوهم، أكدوا قولهم فقالوا: إنا أي من غير وقفة ولا شك برآء أي متبرئون تبرئة عظيمة منكم وإن كنتم أقرب الناس إلينا ولا ناصر لنا منهم غيركم. ولما تبرؤوا منهم أتبعوه ما هو أعظم عندهم منهم وهو سبب العداوة فقالوا: ومما تعبدون أي توجدون عبادته في وقت [ ص: 497 ] من الأوقات الماضية المفيد التعبير [عنها] بالمضارع تصوير الحال أو الحاضرة أو الآتية كائنا من كان لا نخاف شيئا من ذلك لأن إلهنا الذي قاطعنا كل شيء في الانقطاع إليه لا يقاويه شيء، ولا تقدرون أنتم مع إشراككم به على البراءة منه.

ولما كانوا مشركين قالوا مستثنين ومبينين لسفول كل شيء عن متعالي مرتبة معبودهم: من دون الله أي الملك الأعظم الذي هو كاف لكل مسلم. ولما كانت البراءة على أنحاء كثيرة، بينوا أنها براءة الدين الجامعة لكل براءة فقالوا: كفرنا بكم أي أوجدنا الستر لكل ما ينبغي ستره حال كوننا مكذبين بكل ما يكون من جهتكم من دين وغيره الذي يلزم منه الإيمان، وهو إيقاع الأمان من التكذيب لمن يخبرنا بسبب كل ما يضاده مصدقين بذلك. ولما كان المؤمن على جبلة مضادة لجبلة الكافر، عبر بما يفهم [أن] العداوة [كانت موجودة] ولكنها كانت مستورة، فقال دالا على قوتها بتذكير الفعل: وبدا أي ظهر ظهورا عظيما، وعلى عظمتها بالدلالة بنزع الخافض على أنها شاحنة لجميع البينين فقال: بيننا وبينكم أي في جمع الحد الفاصل بين كل واحد منا وكل واحد منكم العداوة وهي المباينة في الأفعال بأن يعدو كل [على] الآخر ولا يكون [ذلك] [ ص: 498 ] إلا عندما [يستخف] الغيظ الإنسان لإرادة أن يشفي صدره من شدة ما حصل له من حرارة الخنق. فالعداوة مما يمتد فيكون مالئة لظرفها، قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في تلويحه على توضيح صدر الشريعة في أوائله في علاقات المجاز: الفعل المنسوب إلى ظرف الزمان بواسطة تقدير "في" دون ذكره يقتضي كون الظرف معيارا له غير زائد عليه مثل صمت الشهر، يدل على صوم جميع أيامه بخلاف صمت في الشهر، فإذا امتد الفعل امتد الظرف ليكون معيارا [له] فيصح حمل اليوم - في نحو صرت يوم كذا - على حقيقته، وهو ما يمتد من الطلوع إلى الغروب، وإذا لم يمتد الفعل - يعني مثل وقوع الطلاق - لم يمتد الظرف، لأن الممتد لا يكون معيارا لغير الممتد فحينئذ لا يصح حمل اليوم على النهار الممتد بل يجب أن يكون مجازا عن جزء من الزمان الذي لا يعتبر في العرف ممتدا، وهو الآن سواء كان من النهار أو من الليل بدليل قوله تعالى:

ومن يولهم يومئذ دبره فإن التولي عن الزحف حرام ليلا كان أو نهارا ولأن مطلق "الآن" جزء من "الآن" اليومي وهو جزء من اليوم، فيكون مطلق "الآن" جزءا من اليوم، فتحقق العلاقة. [ ص: 499 ] ولما كان ذلك قد يكون لغير البغض بل لتأديب ونحوه قالوا: والبغضاء أي وهي المباينة بالقلوب بالبغض العظيم. ولما كان ذلك قد يكون سريع الزوال قالوا: أبدا ولما كان ذلك مرئيا من صلاح الحال، وكان قد يكون لحظ نفس بينوا غايته على وجه عرفت به علته بقولهم: حتى تؤمنوا أي توقعوا الأمان من التكذيب لمن أمركم بالإيمان وأخبركم عن الرحمن، حال كونكم مصدقين ومعترفين بالله أي الملك الذي له الكمال كله. ولما كانوا يؤمنون به مع الإشراك قالوا: وحده أي تكونوا مكذبين بكل ما يعبد من دونه.

ولما حث سبحانه المخاطبين على التأسي بقول إبراهيم ومن معه في الوقت عليهم السلام استثنى منه فقال تأنيسا لمن نزلت القصة بسببه واستعطافا له وهو حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه: إلا قول إبراهيم أي فلا تأسي لكم به لأبيه واعدا له قبل أن يبين له أنه ثابت العداوة لله تعالى لكونه مطبوعا على قلبه، فلا صلاح له، يقال: إن أباه وعده أنه يؤمن فاستغفر له، فلما تبين له، أنه لا يؤمن تبرأ منه: لأستغفرن أي لأوجدن طلب الغفران من الله لك فإن هذا الاستغفار لكافر، فلا ينبغي لهم أن يتأسوا به فيه مطلقا غير ناظرين إلى علم أنه مطبوع على قلبه أو في حيز الرجوع. [ ص: 500 ] ولما وعده بالاستغفار ترغيبا له، رهبه لئلا يترك السعي في النجاة بما معناه أنه ليس في يدي غير الاستغفار، فقال: وما أملك لك أي لكونك كافرا من الله أي لأنه الملك الأعلى المحيط بنعوت الجلال، وأعرق في النفي بقوله: من شيء والاستثناء وقع [على] هذا القول بقيد الاجتماع، ولا يلزم منه التعرض للأجزاء، فلا تكون هذه الجملة على حيالها مستثناة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نادى: واصباحاه حين أنزل الله سبحانه وتعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين كان يقول لكل من سماه: لا أملك لك من الله شيئا، حتى قال في آخر ذلك: يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت لا أغن عنك من الله شيئا .

ولما حثهم على التأسي بقول الخلص، وقدم [منه] المجافاة لأنها المقصودة، واستثنى ما لا ينبغي التأسي فيه اعتراضا به بين أجزاء مقالهم بيانا للاهتمام به للتنفير منه من قوله، أتم ما يؤتسى فيه فقال مبينا أنهم ما أقدموا على مجافاتهم بما قال إلا وقد قرروا جميع ما يقولونه ورضوا به دون موادتهم وانقطعوا إلى الله وحده انقطاعا تاما يفعل بهم ما يشاء من تسليطهم عليهم أو حمايتهم منهم، لكنهم سألوا الحماية [ ص: 501 ] لا لذاتها ولا لأنفسهم بل لئلا يزيد [ذلك] أعداءهم ضلالا ربنا أي أيها المحسن إلينا بتخليصك لنا من الهلاك باتباعهم عليك أي لا على غيرك توكلنا أي فعلنا في جميع أمورنا معك فعل من يحملها على قوي ليكفيه أمرها لأنا نعلم أنك تكفي إذا شئت كل ملم، وأنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت وقد عادينا فيك قوما عتاة أقوياء ونحن ضعفاء، ورضينا بكل ما يحصل لنا منهم غير أن عافيتك هي أوسع لنا.

ولما كان الذي ينبغي لكل أحد وإن كان محسنا أن يعد نفسه مقصرا شاردا عن ربه لأنه لعظم جلاله لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره، وأن يعزم على الاجتهاد في العبادة قالوا مخبرين بذلك عادين ذلك العزم رجوعا: وإليك أي وحدك لا إلى غيرك أنبنا أي رجعنا بجميع ظواهرنا وبواطننا. ولما كان المعنى تعليلا: فإنه منك المبدأ، عطف عليه قوله: وإليك أي وحدك المصير

التالي السابق


الخدمات العلمية