صفحة جزء
[ ص: 292 ] ولما وفرت هذه الآيات الدواعي على تعيين هؤلاء الذين يريدون الإضلال؛ قال بعد الاعتراض بما بين المبين؛ والمبين من الجمل؛ لمزيد الاهتمام به: من الذين هادوا ؛ ثم بين ما يضلون به ويضلون؛ بقوله - ويجوز أن يكون استئنافا؛ بمعنى: بعضهم؛ أو منهم من -: يحرفون الكلم ؛ أي: الذي أتى به شرعهم؛ من صفة النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - وصفة دينه وأمته؛ وغير ذلك مما يريدون تحريفه لغرض؛ فيتألفون في إمالته؛ وتغييره عن حده وطرفه؛ إلى حد آخر؛ مجاوزين به؛ عن ولما كانت الكلمة إذا غيرت تبعها الكلام؛ وهو المقصود بالذات؛ نبه على ذلك بتذكير الضمير؛ فقال: مواضعه ؛ أي: التي هي به أليق؛ فيتم ضلالهم؛ وإضلالهم؛ وهو يشمل ما إذا كان المعنى المغير إليه بعيدا عن المغير؛ أو قريبا؛ فالذي في "المائدة" أخص.

ولما كان - سبحانه وتعالى - عالما بجميع تحريفهم؛ أشار إليه بالعطف على ما تقديره: "فيقولون كذا؛ ويقولون كذا"؛ ويقولون سمعنا ؛ أي: ما تقول؛ وعصينا ؛ موهمين أنهم يريدون أن ذلك حكاية ما وقع لأسلافهم قديما؛ وإنما يريدون أنهم هم سمعوا ما تقول؛ وخالفوه عمدا؛ ليظن من سمع ذلك أنهم على بصيرة في المخالفة بسبب ما عندهم [ ص: 293 ] من العلم الرباني؛ ليورثه ذلك شكا في أمره؛ وحيرة في شأنه؛ واسمع ؛ حال كونك؛ غير مسمع ؛ موهمين عدم إسماعه ما يكره؛ من قولهم: "فلان أسمع فلانا الكلام"؛ وإنما يريدون الدعاء؛ كما يقال: "اسمع لا سمعت"؛ وراعنا ؛ موهمين إرادة المراعاة؛ والإقبال عليهم؛ وإنما يريدون الشتم بالرعونة; وقال الأصفهاني: ويحتمل شبه كلمة عبرانية؛ كانوا يتسابون بها؛ وهي: "راعينا"؛ فكانوا - سخرية بالدين؛ وهزءا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلمونه بكلام محتمل؛ ينوون به الشتيمة؛ والإهانة؛ ويظهرون التوقير؛ والإكرام؛ ولذلك قال: ليا بألسنتهم ؛ أي: صرفا لها عن مخارج الحروف التي تحق لها في العربية؛ إلى ما يفعله العبرانيون من تغليظ بعض الحروف؛ وشوب بعضها بغيره؛ لإرادة معان عندهم قبيحة؛ مع احتمالها لإرادة معان غير تلك؛ يقصدها العرب؛ مليحة؛ وطعنا في الدين ؛ أي: بما يفسرونه به لمن يطمعون فيه من تلك المعاني الخبيثة.

ولما ذكر هذه الكلمات الموجهة؛ بين ما كان عليهم لو وقفوا؛ [ ص: 294 ] فقال - قاطعا جدالهم -: ولو أنهم قالوا ؛ أي: في الجواب له - صلى الله عليه وسلم - سمعنا وأطعنا ؛ أي: بدل الكلمة الأولى؛ واسمع وانظرنا ؛ بدل ما بعدها؛ لكان ؛ أي: هذا القول؛ خيرا لهم ؛ أي: من ذلك؛ لعدم استيجابهم الإثم؛ وأقوم ؛ أي: لعدم احتمال الذم؛ ولكن لعنهم الله ؛ أي: طردهم الذي له جميع صفات العظمة؛ والكمال؛ وأبعدهم عن الخير؛ بكفرهم ؛ أي: بدناءتهم بما يغطون من أنوار الحق؛ ودلائل الخير؛ فلم يقولوا ذلك.

ولما سبب عن طردهم استمرار كفرهم؛ قال: فلا يؤمنون ؛ أي: يتجدد لهم إيمان؛ إلا قليلا ؛ أي: منهم; استثناء من الواو؛ فإنهم يؤمنون؛ أو هو استثناء مفرغ من مصدر "يؤمن"؛ أي: من إيمانهم ببعض الآيات؛ الذي لا ينفعها لكفرهم بغيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية