صفحة جزء
ولما أنكر عليهم اتباع الهوى ؛ أرشدهم إلى دوائه بأعظم أخلاق النفس وأجل أعمال البدن ، فقال عاطفا على ما مضى من الأوامر . وقال الحرالي : فكأنهم إنما حملهم على مخالفة حكم العقل ما تعودت به أنفسهم من الرياسة والتقدم فلما في ذلك عليهم من المشقة أن يصيروا أتباعا [ ص: 339 ] للعرب بعدما كانوا يرون أن جميع الأرض تبع لهم نسق بخطابهم في ذلك الأمر بالاستعانة بالصبر الذي يكره أنفسهم على أن تصير تابعة بعد أن كانت متبوعة فقال تعالى . انتهى . واستعينوا أي على إظهار الحق والانقياد له وهو معنى ما مضى من الأوامر والنواهي بالصبر أي على مخالفة الهوى ، والصبر حبس النفس عن حاجتها وعادتها وعلى إصلاحها وتزكيتها ، هو ضياء للقلوب تبصر به ما يخفيه عنها الجزع من الخروج عن العادة فيما تنزع إليه الأنفس - قاله الحرالي . وهو عام في كل صبر : الصوم ، وغيره ، والصلاة أي الموصلة إلى المقام الأعلى ، [ ص: 340 ] وفيه التفات إلى وإياك نستعين وإشارة إلى أن من لم تنهه صلاته عن ركوب الباطل والتمادي فيه وتأمره بلزوم الحق والرجوع إليه فليس بمصل ، فكأن المراد بالصبر تخليص النفس من أشراك الهوى وقسرها على الإخلاص ، فمن صلى على هذه الصفة كان لا محالة من الناجين ؛ وثنى بالصلاة لأنها استرزاق يغنيهم عن اشتراء ثمن كانوا يأخذونه من أتباعهم في اللبس والكتمان وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك قال الحرالي . ويصح أن يراد بها الدعاء ، فمن صبر عن الدنايا وعلى المكاره وأنهى صبره إلى الصوم فأزال عنه كدورات [ ص: 341 ] حب الدنيا وأضاف إلى ذلك الصلاة ؛ استنار قلبه بأنواع المعارف ، فإذا ضم إلى ذلك الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى بلغ نهاية البر .

ولما أمر ونهى بما ختمه بالصلاة ؛ حث على التفاؤل لعظمته [ سبحانه ] [ بتخصيصها بالضمير ] فقال : وإنها لكبيرة أي ثقيلة جدا ، والكبير ما جل قدره أو مقداره في حس ظاهر أو في معنى باطن ، قاله الحرالي . إلا على الخاشعين أي المخبتين الذين هم في غاية السهولة واللين والتواضع لربهم بحيث لا يكون عندهم شيء من كبر وينظرون عواقب الأمر وما [ ص: 342 ] أعد عليها من الأجر ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " وجعلت قرة عيني في الصلاة " . وغيرهم يمنعهم ثقلها من فعلها ، وإن فعلها فعلى غير رغبة . قال الحرالي : وهو أي الخشوع هدو الجوارح والخواطر فيما هو الأهم في الوقت ، وأنبأ تعالى بكبر قدر الصلاة عن أن يتناول عملها إلا خاشع خرج عن حظ نفسه وألزم نفسه ذل العبودية التي ختمت بها النبوة ، وفي إشارة كمال الصلاة إشعار بصلاة العصر التي هي صلاة النبي الخاتم الذي زمنه وقت العصر وحالة العبودية ، وذلك مما يكبر على من قرن بنبوته وبملته الملك إلا أن يخشع لما يكبر على النفس ، وخصت الصلاة بالكبر دون الصبر لأن الصبر صغار للنفس والصلاة وجهة للحق والله هو العلي الكبير . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية