صفحة جزء
ولما بان بذلك حسن امتثالها للأوامر، بان به عظيم نظرها في العواقب فدل على ذلك بالفاء في قوله: فالمدبرات أي الناظرات في أدبار الأمور وعواقبها لإتقان ما أمروا به في الأرواح وغيرها أمرا أي عظيما، ويصح أن يكون للشمس والقمر والكواكب والرياح والخيل السابحة في الأرض والجو لمنفعة العباد وتدبير أمورهم، وبعضها سابق لبعض، وبه قال بعض المفسرين، والجواب محذوف إشارة إلى أنه من ظهور العلم به - بدلالة ما قبله وما بعده عليه - في حد لا مزيد عليه، فهو بحيث لا يحتاج إلى ذكره فحذفه كإثباته بالبرهان فتقديره: لتذهبن بالدنيا التي أنتم بها مغترون لنزعنا لها من حالها وتقطيع أوصالها، فإن كل ما تقدم من أعمال ملائكتنا هو من مقدمات ذلك تكذيبا لقول الكفار ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر المشار إليه بتساؤلهم عنها لأنه على وجه الاستهزاء والتكذيب ولتقومن الساعة؟ أو أنكم لمبعوثون بعد الموت وانتهاء هذه الدار؟ ثم لمجازون بما عملتم بأسباب موجودة مهيأة بين أظهركم دبرناها وأوجدناها حين أوجبنا هذه الحياة الدنيا وإن كنتم لا ترونها كما أن هذه الأمور التي أخبرناكم بها في نزع الأرواح والنبات والمنافع موجودة بين أظهركم [ ص: 221 ] والميت أقرب ما يكون منكم وهي تعمل أعمالها. والمحتضر أشد ما يكون صوتا وأعظمه حركة إذا هو قد خفت وهمد بعد ذلك الأمر وسكت وامتدت أعضاؤه ومات، وذهب عنكم قهرا وفات الذي فات كأنه قط ما كان، ولا تغلب في زمن من الأزمان، بتلك الأسباب التي تعمل أعمالها وتمد حبالها وترسي أثقالها، وتلقي أهوالها وأوجالها، وأنتم لا ترونها، فيالله العجب أن لا يردكم ذلك على كثرته عن أن تستبعدوا على قدرته تمييز تراب جسد من تراب جسد آخر.

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أوضحت سورة النبأ حال الكافر في قوله يا ليتني كنت ترابا عند نظره ما قدمت يداه، ومعاينته من العذاب عظيم ما يراه، وبعد ذكر تفصيل أحوال وأهوال، أتبع ذلك ما قد كان حاله عليه في دنياه من استبعاد عودته في أخراه، وذكر قرب ذلك عليه سبحانه كما قال في الموضع الآخر وهو أهون عليه وذلك بالنظر إلينا ولما عهدناه، وإلا فليس عنده سبحانه شيء أهون من شيء إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فقال تعالى: والنازعات غرقا إلى قوله: يقولون أإنا لمردودون في الحافرة أإذا كنا عظاما نخرة إذ يستبعدون ذلك ويستدفعونه فإنما هي زجرة واحدة أي صيحة فإذا هم بالساهرة أي الأرض قياما ينظرون [ ص: 222 ] ما قدمت أيديهم ويتمنون أن لو كانوا ترابا ولا ينفعهم ذلك، ثم ذكر تعالى من قصة فرعون وطغيانه ما يناسب الحال في قصد الاتعاظ والاعتبار، ولهذا أتبع القصة بقوله سبحانه

إن في ذلك لعبرة لمن يخشى انتهى.

التالي السابق


الخدمات العلمية