صفحة جزء
ولما عم في بيان استهزائهم جميع الدين؛ خص روحه؛ وخالصته؛ وسره؛ فقال: وإذا ناديتم ؛ أي: دعا بعضكم الباقين إلى الإقبال إلى الندى؛ وهو المجتمع؛ فأجابه الباقون بغاية الرغبة؛ ومنه دار الندوة؛ أو يكون المعنى أن المؤذن كلم المسلمين؛ برفع صوته؛ كلام من هو معهم في الندى بالقول؛ فأجابوه بالفعل؛ فكان ذلك مناداة - هذا أصله؛ فعبر بالغاية التي يكون الاجتماع بها؛ فقال - مضمنا له الانتهاء -: إلى الصلاة ؛ أي: التي هي أعظم دعائم الدين؛ وموصل إلى الملك العظيم؛ وعاصم بحبله المتين؛ اتخذوها ؛ على ما لها من العظمة؛ والجد؛ والبعد من الهزء؛ بغاية هممهم؛ وعزائمهم؛ هزوا ولعبا ؛ فيتعمدون الضحك؛ والسخرية؛ ويقولون: صاحوا كصياح العير - ونحو هذا -؛ وبين - سبحانه - أن سبب ذلك عدم انتفاعهم بعقولهم؛ فكأنهم لا عقول لهم؛ وذلك لأن تأملها - في التطهر لها؛ وحسن حال فاعلها عند التلبس بها؛ من التخلي عن الدنيا جملة؛ والإقبال على الحضرة الإلهية؛ والتحلي [ ص: 197 ] بالقراءة لأعظم الكلام؛ والتخشع والتخضع لملك الملوك؛ الذي لم تخف عظمته على أحد؛ ولا نازع قط في كبريائه وقدرته منازع - بمجرده كاف في اعتقاد حسنها؛ وجلالها؛ وهيبتها؛ وكمالها؛ فقال: ذلك ؛ أي: الأمر العظيم الشناعة؛ بأنهم قوم ؛ وإن كانوا أقوياء؛ لهم قدرة على القيام في الأمور؛ لا يعقلون ؛ أي: ليست لهم هذه الحقيقة؛ ولو كان لهم شيء من عقل لعلموا أن النداء بالفم أحسن من التبويق؛ وضرب الناقوس بشيء لا يقاس؛ وأن التذلل بين يدي الله بالصلاة أمر لا شيء أحسن منه بوجه؛ وللأذان من الأسرار ما تعجز عنه الأفكار؛ منه أنه جعل تسع عشرة كلمة؛ ليكف الله به عن قائله خزنة النار التسعة عشر؛ وجعلت الإقامة إحدى عشرة كلمة؛ رجاء أن يكون معتقدها رفيقا لأحد عشر؛ العشرة المشهود لهم بالجنة؛ وقطبهم؛ وقطب الوجود كله؛ النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وناهيك أن من أسراره أنه جمع الدين كله؛ أصولا؛ وفروعا - كما بينت ذلك في كتابي: "الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان".

التالي السابق


الخدمات العلمية