1. الرئيسية
  2. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
  3. سورة " المائدة
  4. قوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا
صفحة جزء
ولما كان ما مضى في هذه السورة غالبا؛ في فضائح أهل الكتاب؛ لا سيما اليهود؛ وبيان أنهم عضوا على الكفر؛ ومردوا على الجحد؛ وتمرنوا على البهت؛ وعتوا عن أوامر الله؛ كان ذلك موجبا لأنه ربما حدث في الخاطر أنه إن آمن منهم أحد ما يقبل؛ أو لأن يقولوا هم: ليس في دعائنا حينئذ فائدة؛ فلا تدعنا؛ أخبر أن الباب مفتوح لهم؛ ولغيرهم من جميع أهل الملل؛ وأنه ليس بين الإنسان وبين أن يكون من أهله إلا عدم الإخلاص؛ فإذا أخلص أذن في دخوله؛ ونودي بقبوله؛ أو يقال - وهو أحسن -: لما أخبر عن كثير منهم بالزيادة في الكفر؛ رغب القسم الآخر على وجه يعم غيرهم؛ أو يقال: إنه لما طال الكلام معهم كان ربما ظن أن الأمر - ترغيبا؛ وترهيبا؛ وأمرا؛ ونهيا - خاص بهم؛ فوقع الإعلام بأنهم وغيرهم من جميع الفرق في ذلك سواء؛ تشريفا لمقدار هذا النبي الكريم؛ بعموم الدعوة؛ وإحاطة الرسالة؛ [ ص: 241 ] فقال - سبحانه -: إن الذين آمنوا ؛ أي: قالوا: آمنا؛ والذين هادوا ؛ أي: اليهود؛ والصابئون ؛ أي: القائلون بالأوثان السماوية؛ والأصنام الأرضية؛ والنصارى ؛ أي: الذين يدعون اتباع المسيح - عليه السلام؛ ولما كان اليهود قد عبدوا الأصنام؛ متقربين بها إلى النجوم؛ في استنزال الروحانيات؛ انهماكا في السحر؛ الذي جاء نبيهم موسى - عليهم السلام - بإبطاله؛ وكان ذلك هو معنى دين الصابئة؛ وفرق بين فريقي بني إسرائيل بهم؛ مكتفيا بهم عن ذكر بقية المشركين؛ لما مضى في "البقرة"؛ ولما سبق في هذه السورة من ذم اليهود؛ بالنقض للميثاق؛ والكفر؛ واللعن؛ والقسوة؛ وتكرر الخيانة؛ وإخفاء الكتاب؛ والمسارعة في الكفر؛ والنفاق؛ والتخصيص بالكفر؛ والظلم؛ والفسق؛ وغير ذلك من الطامات ما يسد الأسماع؛ كان قبول توبتهم جديرا بالإنكار؛ وكانوا هم ينكرون - عنادا - فلاح العرب ؛ من آمن منهم؛ ومن لم يؤمن؛ فاقتضى الحال كون الفريقين في حيز التأكيد؛ ولم يتقدم للصابئة ذكر هنا؛ فأخرجوا منه؛ تنبيها على أن المقام لا يقتضيه لهم؛ فابتدئ بذكرهم اعتراضا؛ ودل على الخبر عنهم بخبر "إن"؛ أو أنه لما كان المقام للترغيب في التوبة؛ وجعل هؤلاء؛ مع شناعة حالهم بظهور ضلالهم؛ كمن لا إنكار لقبول توبته؛ كان غيرهم أولى بذلك؛ ولما كان حال النصارى مشتبها؛ جعلوا في حيز الاحتمال للعطف على اليهود؛ لما [ ص: 242 ] تقدم من ذمهم؛ وعلى الصابئة؛ لخفة حالهم؛ بأنهم - مع أن أصل دينهم صحيح - لم يبلغ ذمهم السابق في هذه السورة مبلغ ذم اليهود؛ من آمن ؛ أي: منهم؛ مخلصا من قلبه؛ ولعله ترك الجار إعراقا في التعميم؛ بالله ؛ أي: الذي له جميع الجلال والإكرام؛ واليوم الآخر ؛ أي: الذي يبعث فيه العباد بأرواحهم؛ وأشباحهم؛ ويبعث من ذكره على الزهادة؛ وألحد في العبادة؛ وبالإيمان به يحصل كمال المعرفة بالله (تعالى) ؛ باعتقاد كمال قدرته؛ وعمل صالحا ؛ أي: صدق إيمانه القلبي بالعمل بما أمر به؛ ليجمع بين فضيلتي العلم؛ والعمل؛ ويتطابق الجنان مع الأركان؛ فلا خوف عليهم ؛ يعتد به في دنيا؛ ولا في آخرة؛ ولا هم ؛ أي: خاصة؛ يحزنون ؛ أي: على شيء فات؛ لأنه لا يفوتهم شيء يؤسف عليه أصلا؛ وأما غيرهم فهم في الحزن أبدا؛ وفي الآية تكذيب لهم في قولهم: ليس علينا في الأميين سبيل ؛ المشار إليه في هذه السورة؛ بنسبتهم إلى أكل السحت؛ في غير موضع؛ وفي نصوص التوراة الموجودة بين أظهرهم الآن أعظم ناصح لهم في ذلك؛ كما سبق في أوائل "البقرة"؛ وقال في السفر الرابع منها - عند ذكر التيه؛ ووصاياهم؛ إذ أدخلهم الأرض المقدسة؛ ومكنهم فيها بأشياء؛ [ ص: 243 ] منها القربان -: (وإن سكن بينكم رجل غريب يقبل إلي؛ أو بين أولادكم لأحقابكم؛ ويقرب قربانا لربح قتار الذبيحة للرب؛ يفعل كما فعلتم أنتم؛ ولتكن السنة واحدة لكم؛ وللذين يقبلون إلي؛ ويسكنون بينكم؛ سنة جارية لأحقابكم إلى الأبد؛ والذين يقبلون إلي من الغرباء يكونون أمام الرب مثلكم؛ ولتكن لكم سنة واحدة؛ وحكومة واحدة؛ لكم وللذين يقبلون إلي؛ ويسكنون معكم.

التالي السابق


الخدمات العلمية