صفحة جزء
ولما قامت الأدلة على بطلان قول اليهود؛ ثم على بطلان مدعى النصارى؛ ولم يبق لأحد علة؛ أمره - صلى الله عليه وسلم - أن ينهى الفريقين عن الغلو بالباطل في أمر عيسى - عليه السلام -؛ اليهود؛ [ ص: 258 ] بإنزاله عن رتبته؛ والنصارى؛ برفعه عنها؛ بقوله (تعالى): قل يا أهل الكتاب ؛ أي: عامة؛ لا تغلوا ؛ أي: تجاوزوا الحد علوا؛ ولا نزولا؛ في دينكم ؛ ولما كان الغلو ربما أطلق على شدة الفحص عن الحقائق؛ واستنباط الخفي من الأحكام؛ والدقائق من خبايا النصوص؛ نفى ذلك بقوله: غير الحق ؛ وعرفه؛ ليفيد أن المبالغة في الحق غير منهي عنها؛ وإنما المنهي عنه تجاوز دائرة الحق بكمالها؛ ولو نكر لكان من جاوز حقا إلى غيره واقعا في النهي؛ كمن جاوز الاجتهاد في الصلاة النافلة إلى الجد في العلم النافع؛ ولو قيل: باطلا؛ لأوهم أن المنهي عنه المبالغة في الباطل؛ لا أصله ومطلقه.

ولما نهاهم أن يضلوا بأنفسهم؛ نهاهم أن يقلدوا في ذلك غيرهم؛ فقال: ولا تتبعوا ؛ أي: فاعلين فعل من يجتهد في ذلك؛ أهواء قوم ؛ أي: هووا؛ مع ما لهم من القوة؛ فكانوا أسفل سافلين؛ والهوى لا يستعمل إلا في البشر؛ قد ضلوا ؛ ولما كان ضلالهم غير مستغرق للزمان الماضي؛ أدخل الجار؛ فقال: من قبل ؛ أي: من قبل زمانكم هذا عن منهاج العقل؛ فصبروا على ضلالهم؛ وأنسوا بما تمادوا عليه في محالهم؛ وأضلوا ؛ أي: لم يكفهم ضلالهم في أنفسهم؛ حتى أضلوا غيرهم؛ كثيرا ؛ أي: من الناس؛ بتماديهم في الباطل؛ من التثليث؛ وغيره؛ حتى [ ص: 259 ] ظن حقا؛ وضلوا ؛ أي: بعد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنابذة الشرع؛ عن سواء ؛ أي: عدل؛ السبيل ؛ أي: الذي لا سبيل في الحقيقة غيره؛ لأن الشرع هو الميزان القسط؛ والحكم العدل؛ وهذا إشارة إلى أنهم إن لم ينتهوا كانوا على محض التقليد لأسلافهم الذين هم في غاية البعد عن النهج؛ وترك الاهتداء بنور العلم؛ وهذا غاية في التبكيت؛ فإن تقليدهم لو كان فيما يشبه الحق كان جهلا؛ فكيف وإنما هو تقليد في هوى؟!

التالي السابق


الخدمات العلمية