صفحة جزء
ولما تم هذا على هذا الوجه الغريب؛ بين - سبحانه - سره؛ فقال: ذلك ؛ أي: الأمر المحكم المرتب هذا الترتيب؛ بالأيمان وغيرها؛ أدنى ؛ أي: أقرب؛ أن ؛ أي: إلى أن يأتوا ؛ أي: الذين شهدوا أولا؛ بالشهادة ؛ أي: الواقعة في نفس الأمر؛ على وجهها ؛ من غير أدنى ميل؛ بسبب أن يخافوا من الحنث عند الله بعد هذا التغليظ؛ أو يخافوا ؛ إن لم يمنعهم الخوف من الله؛ أن ترد ؛ أي: تثنى؛ وتعاد؛ [ ص: 334 ] أيمان ؛ أي: من الورثة؛ بعد أيمانهم ؛ للعثور على ريبة؛ فيصيروا بافتضاحهم مثلا للناس؛ قال الشافعي : وليس في هذا رد اليمين؛ فما كانت يمين الداريين على ما ادعى الورثة من الخيانة؛ ويمين ورثة الميت على ما ادعى الداريان مما وجد في أيديهما وأقرا أنه مال الميت؛ وأنه صار لهما من قبله؛ فلم تقبل دعواهما بلا بينة؛ فأحلف وارثاه؛ قال: وإذا كان هذا كما وصفت فليست الآية ناسخة؛ ولا منسوخة؛ لأمر الله بإشهاد ذوي عدل؛ ومن نرضى من الشهداء؛ هذا ما اقتضى إيلاؤها لما قبلها؛ وقد نزعها إلى مجموع هذه السورة منازع؛ منها ما تقدم من ذكر القتل؛ الذي هو من أنواع الموت؛ عند قصة ابني آدم ؛ وما بعدها؛ ثم تعقيب ذلك بالجهاد؛ الذي هو من أسباب الموت؛ وقوله (تعالى): وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ؛ ثم ذكره أيضا في قوله (تعالى): يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ؛ وقد جرت السنة الإلهية بذكر الوصية عقب مثل ذلك في "البقرة"؛ ولم يذكر عقب واحدة من الآيات المذكورة؛ لزيادتها على آية "البقرة"؛ بمنازع؛ منها الحلف؛ فناسب كونها بعد آية الأيمان؛ ومنها تغليظ الحلف؛ والخروج به عما يشاكله من القسم على المال بكونه في زمان مخصوص؛ بعد عبادة مخصوصة؛ فناسب ذكرها بعد تغليظ أمر الصيد في حال مخصوص؛ وهو الإحرام؛ والخروج به عن أشكاله من الأحوال؛ وبعد تغليظ جزائه؛ والخروج به عن أشكاله من الكفارات؛ وتغليظ أمر المكان المخصوص؛ وهو الكعبة؛ والخروج [ ص: 335 ] بها عن أشكالها من البيوت؛ وكذا تغليظ الزمان المخصوص؛ وهو الشهر الحرام؛ والخروج به عن أشكاله من الأزمنة؛ وكل ذلك لقيام أمر الناس؛ وإصلاح أحوالهم؛ وهكذا آية الوصية؛ وما خرج من أحكامها عن أشكاله؛ كله لقيام الأمور على السداد؛ وإصلاح المعاش؛ والمعاد؛ وهي ملتفتة إلى أول السورة؛ إذ هي من أعظم العهود؛ والوفاء بها من أصعب الوفاء؛ وإلى قوله (تعالى): وتعاونوا على البر والتقوى ؛ وإلى قوله (تعالى): كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ؛ انظر إلى ختمها بقوله: إن الله خبير بما تعملون ؛ وإلى كون هذه في سياق الإعلام بأن الله عالم بالخفيات؛ وقوله: - عطفا على ما تقديره: "فالزموا ما أمرتكم به؛ وأرشدتكم إليه؛ تفلحوا" -: واتقوا الله ؛ أي: ذا الجلال والإكرام؛ إلى آخرها؛ ملتفت إلى قوله: وميثاقه الذي واثقكم به ؛ الآية؛ أي: خافوا الله خوفا عظيما؛ يحملكم على أن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية؛ لئلا تحلفوا كاذبين؛ أو تخونوا أدنى خيانة؛ واسمعوا ؛ أي: الموعظة؛ سمع إجابة وقبول؛ ذاكرين لقولكم؛ سمعنا وأطعنا ؛ فإن الله يهدي المتمسكين بالميثاق؛ والله ؛ أي: الذي له الكمال كله؛ وتمام الحكمة؛ وكمال العزة والسطوة؛ لا يهدي القوم ؛ أي: لا يخلق الهداية في قلوب الذين لهم قدرة على [ ص: 336 ] ما يحاولونه؛ الفاسقين ؛ أي: الذين هم خارجون؛ أي: من عادتهم ذلك؛ على وجه الرسوخ؛ فهم أبدا غير متقيدين بقيد؛ ولا منضبطين بدائرة عقد؛ ولا عهد.

التالي السابق


الخدمات العلمية