صفحة جزء
[ ص: 1 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنعام

مقصودها الاستدلال على ما دعا إليه الكتاب في السورة الماضية من التوحيد بأنه الحاوي لجميع الكمالات من الإيجاد والإعدام والقدرة على البعث وغيره ، وأنسب الأشياء المذكورة فيها لهذا المقصد الأنعام ؛ لأن الإذن فيها - كما يأتي - مسبب عما ثبت له من الفلق والتفرد بالخلق ، وتضمن باقي ذكرها إبطال ما اتخذوه من أمرها دينا ؛ لأنه لم يأذن فيه ولا أذن لأحد معه ؛ لأنه المتوحد بالإلهية ، لا شريك له ، وحصر المحرمات من المطاعم التي هي جلها في هذا الدين وغيره ، فدل ذلك على إحاطة علمه ، وسيأتي في سورة ( طه ) البرهان الظاهر على أن إحاطة العلم ملزومة لشمول القدرة وسائر الكمالات ، وذلك عين مقصود السورة ، وقد ورد من عدة طرق ، كما بينت ذلك في كتابي : (مصاعد النظر) . [ ص: 2 ] أنها نزلت جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك ، لهم زجل بالتسبيح ، وفي رواية : إن نزولها كان ليلا ، وإن الأرض كانت ترتج لنزولها . وهي كلها في حجاج المشركين وغيرهم من المبتدعة والقدرية وأهل الملل الزائغة ، وعليها مبنى أصول الدين ؛ لاشتمالها على التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب الملحدين . وإنزالها على الصورة المذكورة يدل على أن أصول الدين في غاية الجلالة ، وأن تعلمه واجب على الفور لنزولها جملة ، بخلاف الأحكام فإنها تفرق بحسب المصالح ، ولنزولها ليلا دليل على غاية البركة لأنه محل الأنس بنزوله تعالى إلى سماء الدنيا ، وعلى أن هذا العلم لا يقف على أسراره إلا البصراء الأيقاظ من سنة الغفلات ، أولو الألباب أهل الخلوات ، والأرواح الغالبة على الأبدان وهم قليل . " بسم الله " الذي بين دلائل توحيده بأنه الجامع لصفات الكمال " الرحمن " الذي أفاض على سائر الموجودات من رحمته بالإيجاد والإعدام ما حير لعمومه الأفهام ، فضاقت به الأوهام " الرحيم " الذي حبا أهل الإيمان بنور البصائر حتى كان الوجود ناطقا لهم ، بالإعلام بأنه الحي القيوم السلام . الحمد أي : الإحاطة بأوصاف الكمال لله

لما ختم - سبحانه - تلك بتحميد عيسى - عليه السلام - لجلاله في ذلك [ ص: 3 ] اليوم في ذلك الجمع ، ثم تحميد نفسه المقدسة بشمول الملك والقدرة ؛ إذ الحمد هو الوصف بالجميل - افتتح - سبحانه وتعالى - هذه السورة بالإخبار بأن ذلك الحمد وغيره من المحامد مستحق له استحقاقا ثابتا دائما ، قبل إيجاد الخلق وبعد إيجاده ، سواء شكره العباد أو كفروه ؛ لما له - سبحانه وتعالى - من صفات الجلال والكمال - على ما تقدمت الإشارة إليه في الفاتحة - فأتى بهذه الجملة الاسمية المفتتحة باسم الحمد الكلي الجامع لجميع أنواعه الدالة على الاستغراق ، إما بأن اللام له عند الجمهور ، أو بأنها للجنس - كما هو مذهب الزمخشري ، ويؤول إلى مذهب الجمهور ، فإن الجنس إذا كان مختصا به لم يكن فرد منه لغيره ؛ إذ الجنس لا يوجد إلا ضمن أفراده ، فمتى وجد فرد منه لغيره كان الجنس موجودا فيه فلم يكن الجنس مختصا به وقد قلنا : إنه مختص ، وهذا التحميد صار بوصفه فردا من أفراد تحميد الفاتحة تحقيقا لكونها أما ، وعقبها - سبحانه - بالدليل الشهودي على ما ختم به تلك من الوصف بشمول القدرة بوصفه بقوله : الذي خلق

ولما كان تعدد السماوات ظاهرا بالكواكب في سيرها وحركاتها في السرعة والبطء واستتار بعضها ببعض عند الخسوف وغيره ، وغير ذلك [ ص: 4 ] مما هو محرر عند أهله : جمعها فقال : السماوات أي : على علوها وإحكامها ، [قدمها ؛ لما تقدم قريبا] والأرض أي : على تحليها بالمنافع وانتظامها .

ولما كان في الجعل معنى التضمن فلا يقوم المجعول بنفسه قال : وجعل أي : أحدث وأنشأ لمصالحكم الظلمات أي : الأجرام المتكاثفة - كما تقدم - والنور وجمع الأول تنبيها على أن طرق الشر والهلاك كثيرة تدور على الهوى ، وقد تقرر بهذا ما افتتح به السورة ؛ لأن من تفرد باختراع الأشياء كان هو المختص بجميع المحامد ، ومن اختص بجميع المحامد لم يكن إله سواه ولم يكن له شريك ، لا ثاني اثنين ولا ثالث ثلاثة ولا غير ذلك ، وما أحسن ختمها - بعد الإشارة إلى هذه المقاصد المبعدة لأن يكفر به أو يعدل به شيء - بقوله : ثم الذين كفروا أي : ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من أدلة وحدانيته التي لا خفاء بها عن أحد جرد نفسه من الهوى ، وعالج أدواءه بأنفع دواء ، لإحاطته بجميع صفات الكمال ، وزاد الأمر تقبيحا عليهم بإبدال ما كان الأصل في الكلام من الضمير بقوله : بربهم أي : المحسن إليهم الذي لم يروا إحسانا إلا منه يعدلون أي : يجعلون غيره ممن لا يقدر على شيء معادلا له مع معرفتهم به بأنه الذي أبدع الأشياء ، [ ص: 5 ] كفرا لنعمته وبعدا من رحمته ، فبعضهم عدل به بعض الجواهر من خلقه من السماء كالنجوم ، أو من الأرض كالأصنام ، أو بعض ما ينشأ عن بعض خلقه من الأعراض وهو خلقه ، كالنور والظلمة ، والحال أن تقلباتهما تدل - بأدنى النظر - على أمرين : الأول بعدهما عن الصلاحية للإلهية لتغيرهما قال لا أحب الآفلين والثاني : قدرة خالقهما ومغيرهما على البعث لإيجاد كل منهما بعد إعدامه كما هو شأن البعث - إلى غير ذلك من الأسرار التي تدق عن الأفكار ، وتقديم الظلمة مناسب لسياق العادلين ، والتعبير بثم للتنبيه على ما كان ينبغي لكل راو لهذا الخلق من الإبعاد عن الكفر لبعده عن الصواب ، فقد لاح أن مقصد السورة الاستدلال على ما دعا إليه الكتاب الذي تبين أنه الهدى من توحيد الله والاجتماع عليه والوفاء بعهوده بأنه - سبحانه - وحده الخالق الحائز لجميع الكمالات من القدرة على البعث وغيره ، وما أنسب ذلك بختم المائدة بذكر يوم الجمع وأن لملكه جميع الملك ، وهو على كل شيء قدير ، وهذه السورة أول السور الأربع المشيرة إلى جميع النعم المندرجة تحت النعم الأربع التي اشتملت عليها الفاتحة ، وكل سورة منها مشيرة إلى نعمة من النعم الأربع ، فقوله : خلق السماوات والأرض الآية ، ثم خلقكم من طين ثم وما من [ ص: 6 ] دابة في الأرض الآية ، متكفل بتفصيل نعمة الإيجاد الأول لجميع العالمين من السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من آدمي وغيره المشار إليه في الفاتحة برب العالمين - كما تقدم - .

ولما تكفلت السور المتقدمة بالرد على مشركي العرب واليهود والنصارى مع الإشارة إلى إبطال جميع أنواع الشرك ، سيق مقصود هذه السورة في أساليب متكفلة بالرد على بقية الفرق ، وهم الثنوية من المجوس ، القائلون بإلهين اثنين وبأصلين : النور والظلمة ، ويقرون بنبوة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - فقط ، والصابئة القائلون بالأوثان السماوية والأصنام الأرضية متوسطين إلى رب الأرباب ، وينكرون الرسالة في الصورة البشرية . وأصحاب الروحانيات ، أعني : مدبرات الكواكب والأفلاك ، وينتسبون إلى ملة إبراهيم - عليه السلام - ويدعون أنه منهم - وقد أعاذه الله من ذلك ، والسمنية القائلون بإلهية الشمس ، مع تأكيد الرد على الفرق المتقدمة على أن جميع فرقهم يجتمعون في اعتبار النجوم ، يتبين ذلك لمن نظر في كتب فتوح بلاد الفرس في أيام الصديق والفاروق - رضي الله عنهما - وقال تنكلوشا البابلي في أول كتابه [ ص: 7 ] في أحكام الدرج الفلكية : إن القدماء من الكدانيين استنبطوا غوامض أسرار الفلك ، وكان عندهم أجل العلوم ولم يكونوا يظهرون علم الفلك لكل الناس ، بل كانوا يخفون أكثره عن عامتهم ، ويعطونهم منه بمقدار ما يصلح ، ويتدارسون الباقي بينهم مطويا بين علمائهم وحكمائهم ، ثم ذكر تقسيمهم درج الفلك على ثلاثمائة وستين ، ثم قال : وقسموا الدرج أقساما كثيرة حتى قالوا : إن بعضها ذكور وبعضها إناث ، وبعضها مسعدة وبعضها منحسة ، ثم قال : كل ذلك يريدون فيه الدلالة منها على ما تدل عليه في عالمنا وعلى أحوالنا حتى جعلوا لكل درجة عالما وخلقا منفردا بمدته ، وأن ذلك العالم والخلق يندرسون وينشأ بعدهم غيرهم - إلى غير ذلك من الكلام الذي يرجع إلى اعتقاد تأثير النجوم بنفسها - تعالى الله عن أن يكون له شريك أو يكون له كفؤا أحد - .

التالي السابق


الخدمات العلمية