صفحة جزء
وأما رسل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا مبلغين لكتبه - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 58 ] فمن قبل ذلك كان حظه من الله ، ومن أبى كان جوابه السيف الماحق لدولته - كما ذكرته مستوفى في شرحي لنظمي للسيرة وهو مذكور في فتوح البلاد; ولما بعث - صلى الله عليه وسلم - رسله اتخذ لأجل مكاتبة الملوك الخاتم ، أخرج أبو يعلى في مسنده عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى وقيصر - وفي رواية : وأكيدر دومة وإلى كل جبار - يدعوهم إلى الله .

وأخرج الشيخان في صحيحهما - وهذا لفظ مسلم - عن أنس بن مالك أيضا - رضي الله عنه - قال : لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب إلى الروم - وفي رواية : إلى العجم - قالوا : إنهم لا يقرؤون كتابا إلا مختوما ، فاتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتما من فضة كأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقشه : ( محمد رسول الله ) . فبعث دحية بن خليفة الكلبي - رضي الله عنه - إلى قيصر ملك الروم وأمره أن يوصل الكتاب إلى عظيم بصرى ليوصله إليه ، فعظم كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبله وقرأه ووضعه على وسادة وعلم صدقه - صلى الله عليه وسلم - وأنه سيغلب على ملكه ، فجمع الروم وأمرهم بالإسلام فأبوا ، فخافهم فقال : إنما أردت أن أجربكم ، ثم لم يقدر الله له الإسلام ، فأزال الله حكمه عن الشام ، وكثير من الروم على يدي أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - [ثم] عن كثير من الروم أيضا على يد من بعدهم ، ومكن بها [ ص: 59 ] الإسلام ، لكن أثابه الله على تعظيم كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن أبقى ملكه في أطراف بلاده إلى الآن ، وبلغني أن الكتاب محفوظ عندهم إلى هذا الزمان; وبعث شجاع بن وهب الأسدي - رضي الله عنه - إلى الحارث بن أبي شمر الغساني - وقال القضاعي : المنذر بن أبي شمر عامل قيصر على تخوم الشام [ثم] إلى جبلة بن الأيهم الغساني ، فأما الحارث أو المنذر فغضب من الكتاب وهم بالمسير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقاتله ، زعم فنهاه عن ذلك قيصر ، فأكرم شجاعا ورده وأسلم حاجبه مري الرومي بما عرف من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإنجيل ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( باد ملك الحارث ، وفاز مري ) فقل ما لبث الحارث حتى مات ، وولي بعده في مكانه جبلة بن الأيهم الغساني ، وهو آخر ملوك غسان على نواحي الشام ، فرد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - شجاع بن وهب - رضي الله عنه - فرد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ردا جميلا ولم يسلم ، واستمر يتربص حتى أسلم في خلافة عمر - رضي الله عنه - لما رأى من ظهور نور الإسلام وخمود نار الشرك ، ثم إنه [ ص: 60 ] ارتد - ولحق ببلاد الروم - في لطمة أريد أن يقتص منه فيها ، فسبحان الفاعل لما يشاء! وبعث عبد الله بن حذافة السهمي - رضي الله عنه - إلى كسرى ملك الفرس ، وأمره أن يدفع الكتاب إلى عظيم البحرين ليوصله إليه ، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ باسمه الشريف مزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه ، فرجع عبد الله ، فلما سكن غضب الخبيث التمسه فلم يجده فأرسل في طلبه فسبق الطلب ، فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تمزيق الكتاب دعا على كسرى أن يمزق كل ممزق ، فأجاب الله دعوته فشتت شملهم وقطع وصلهم على يد أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ثم قتل يزدجرد آخر ملوكهم في خلافة عثمان - رضي الله عنه - فأصبح ملك الأكاسرة كأمس الدابر ، وعم بلادهم الإسلام وظهرت بها كلمة الإيمان ، بل تجاوز الإسلام ملكهم إلى ما وراء النهر وإلى بلاد الخطا . وبعث حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - إلى المقوقس صاحب مصر والإسكندرية ، فعلم من صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ما علمه قيصر من الإنجيل ، فأكرم الرسول وأهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ورد ردا جميلا ولم يسلم ، فأباد الله ملكه على يد عمرو بن العاص أمير لعمر - رضي الله عنهما -. وبعث عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه - إلى النجاشي فآمن - رضي الله عنه - وقال : أشهد أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب ، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل - عليهم السلام - . [ ص: 61 ] وأن العيان ليس بأشفى من الخبر ، وأهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - هدايا كثيرة ، وأرسل ابنه بإسلامه في سبعين من الحبشة ، وقال في كتابه : وإني لا أملك إلا نفسي ومن آمن بك من قومي ، وإن أحببت أن آتيك يا رسول الله فعلت ; فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي واستغفر له. وبعث العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه - إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين وإلى أسيحت مرزبان هجر بكتاب يدعوهما فيه إلى الإسلام أو الجزية ، وأرض البحرين من بلاد العرب ، لكن كان الفرس قد غلبوا عليها ، وبها خلق كثير من عبد القيس وبكر بن وائل وتميم فأسلم المنذر وأسيحت وجميع من هناك من العرب وبعض العجم ، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على عمله. وبعث سليط بن عمرو العامري - رضي الله عنه - إلى هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة ، وكان عاملا لقيصر على قومه ، فقرأ كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد ردا دون رد ، فصادف أن قدم عليه راهب من دمشق ، فأخبره أنه لم يجب إلى الإسلام ، فقال : لم ؟ قال : ضننت بملكي ، قال الراهب : لو تبعته لأقرك والخير لك في اتباعه ، فإنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر به [ ص: 62 ] عيسى - عليه السلام - قال هوذة للراهب : فما لك لا تتبعه؟ فقال : أجدني أحسده وأحب الخمر ، فكتب هوذة كتابا [وبعث] إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهدية مكانه ذلك ، وشعر به قومه [فأتوه] فهددوه ، فرد الرسول واستمر على نصرانيته ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع إليه سليط :

( باد هوذة وباد ما في يده ) فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من فتح [ مكة ] جاءه جبرئيل - عليه السلام - بأن هوذة مات ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ يقتل بعدي ) ، فكان كذلك كما هو مشهور من أمر مسيلمة الكذاب . وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي - رضي الله عنه - إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن ، فلما بلغه رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الحارث : قد كان هذا النبي عرض نفسه علي فخطئت عنه ، وكان ذخرا لمن صار إليه ، وسأنظر ، وتباطأ به الحال إلى أن أسلم عند رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك سنة الوفود ، وكاتب النبي - صلى الله عليه وسلم – بذلك. وبعث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - إلى جيفر وعبد ابني الجلندي الأزديين ملكي عمان ، فتوقفا واضطرب [ ص: 63 ] رأيهما ، ثم عزم الله لهما على الرشد فقال جيفر : إنه - والله - قد دلني على هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ، و[لا] ينهى عن شر إلا كان أول تارك له ، وأنه يغلب فلا يبطر ، ويغلب فلا يفجر ، وأنه يوفي بالعهد وينجز الوعد ، ولا يزال يطلع على سر قوم يساوي فيه أهله ، وإني أشهد أنه رسول الله ، وأسلم أخوه أيضا ، وكتبا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلامهما ، فقال خيرا وأثنى خيرا ، وكان في سير هؤلاء الرسل - لعمري - غير ما ذكر أحاديث عجائب وأقاصيص غرائب من دلائل النبوة وأعلام الرسالة ، خشيت من ذكرها الإطالة وأن تمل وإن لم يكن فيها ما يقتضي ملاله ، وقد شفيت في شرحي لنظمي للسيرة باستيفائها القليل في ترتيب جميل ونظم أسلوبه لعمري جليل ، هؤلاء رسل البشر ، وأما الرسل من الجن فقد روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن قال : كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسلا إلى قومهم قال الهيثمي : وفي سنده النضر أبو عمر وهو متروك ، ويؤيد عموم هذه الآية في تناولها الملائكة - عليهم السلام - قوله تعالى : ليكون للعالمين نذيرا وإذا [ ص: 64 ] تأملت سياق الآيات التي بعدها مع آخر السورة التي قبلها قطعت بذلك لينذر من كان حيا إنما تنذر من اتبع الذكر إذ هم من جملة العالمين وممن بلغه القرآن وممن هو حي وممن اتبع الذكر ، والخطاب بالإنذار وارد مورد التغليب ، إذ الإنس والجن أهل له ، فانتفى ما يقال : إن الملائكة في غاية الخوف من الله تعالى مع عصمتهم فليسوا ممن يخوف ، ويزيد ذلك وضوحا قوله تعالى : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ولا إنذار أعظم من ذلك ، وإن عيسى - عليه السلام - من هذه الأمة وممن شملته الآيات الدالة على عموم الرسالة بغير شك ، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( والذي نفسي بيده! لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي) أخرجه الإمام أحمد والدارمي والبيهقي في الشعب عن جابر - رضي الله عنه - ومذهب أهل السنة أن رسل البشر أفضل من رسل الملائكة ، وقد ثبتت رسالته إلى الأفضل المعصوم بالفعل لعيسى ، وبالتعليق بالحياة بموسى - عليه السلام - وقد أخذ الله - سبحانه - ميثاق النبيين كلهم - عليهم السلام - إن أدركوه ليؤمنن به ، وقد خوطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أشرف الخلق وأكملهم - بالإنذار في غير آية ، فمهما أول به ذلك في حقه - صلى الله عليه وسلم - قيل مثله في حقهم - عليهم السلام - [ ص: 65 ] ومما يرفع النزاع ويدفع تعلل المتعلل بالإنذار قوله تعالى : لتنذر به وذكرى للمؤمنين فحذف مفعول ( تنذر ) دال على عموم رسالته ، وتعليق الذكرى بالمؤمنين مدخل لهم بلا ريب ؛ لأنهم من رؤوسهم - عليهم السلام - وقوله تعالى : لتبشر به المتقين إلى غيرها من الآيات ، فيكون عموم رسالته لهم زيادة شرف له ، وهو واضح ، وزيادة شرف لهم بحمل أنفسهم على طاعته والتقيد بما حده لهم من أعمال ملته طاعة لله تعالى زيادة في أجورهم ورفعة درجاتهم ، وذلك مثل ما قال أبو حيان في قوله تعالى : فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين إن في الأمر له بذلك مزيد تأكيد وحصول أجر بالامتثال; وقال القاضي عياض في الفصل السابع من الباب الأول من القسم الأول من الشفا في قوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة قال المفسرون : أخذ الله الميثاق بالوحي ، فلم يبعث نبيا إلا ذكر له محمدا ونعته وأخذ عليه ميثاقه إن أدركه ليؤمنن به ، ويعضد ذلك ما قال في أول الباب الأول : وحكي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لجبرئيل - عليه السلام - : [ ص: 66 ] ( هل أصابك من هذه الرحمة المذكورة في قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين شيء ؟ قال : نعم ! كنت أخشى العاقبة فآمنت لثناء الله - عز وجل - علي بقوله : ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وروى مسلم في كتاب ( الصلاة ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون ) وحمل من حمل الخلق على الناس ؛ للرواية التي فيها : ( إلى الناس) - تحكم ، بل العكس أولى لمطابقة الآيات ، وقد خرج من هذا العموم من لا يعقل بالدليل العقلي ، فبقي غيرهم داخلا في اللفظ ، لا يحل لأحد أن يخرج منه أحدا منهم إلا بنص صريح ودلالة قاطعة ترفع النزاع ، وقال عياض في الباب الثالث من القسم الأول : وذكر البزار عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : لما أراد الله تعالى أن يعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأذان - فذكر المعراج وسماع الأذان من وراء الحجاب ، ثم قال : ثم أخذ الملك بيد محمد - صلى الله عليه وسلم - فقدمه ، فأم بأهل السماء فيهم آدم ونوح . انتهى . وروى عبد الرزاق عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا كان الرجل بأرض قي [ ص: 67 ] فحانت الصلاة فليتوضأ ، فإن لم يجد الماء فليتيمم ، فإن أقام صلى معه ملكاه ، وإن أذن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يرى طرفاه ) قال المنذري : القي - بكسر القاف وتشديد الياء ، وهي الأرض القفر . وروى مالك والستة - إلا الترمذي - وأبو يعلى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين) - وفي رواية : إذا أمن الإمام فأمنوا - فإنه من وافق [تأمينه] - تأمين الملائكة - وفي رواية : من وافق قوله قول الملائكة - غفر له ما تقدم من ذنبه . وفي رواية في الصحيح : ) إذا قال أحدكم في الصلاة : آمين ، وقالت الملائكة في السماء : آمين ، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم له من ذنبه) وفي رواية لأبي يعلى : إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال الذين خلفه : آمين ، التقت من أهل السماء وأهل الأرض آمين ، غفر للعبد ما تقدم من ذنبه . وللشيخين عن أبي هريرة أيضا - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده ، فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد ، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) وفي رواية : فإذا وافق قول أهل السماء قول أهل [ ص: 68 ] الأرض غفر له ما تقدم من ذنبه; في أشكال ذلك مما يؤذن بائتمام الملائكة بأئمتنا ، وذلك ظاهر في التقيد بشرعنا; وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم ، وجزم ابن معين والذهلي بصحته - عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :

) وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة ) وأدل من جميع ما مضى ما روى مالك والشيخان وأبو داود وابن خزيمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) ; وفي رواية : ) فإذا قعد الإمام طويت الصحف ) . [وفي رواية لأحمد عن أبي سعيد : ( فإذا أذن المؤذن وجلس الإمام على المنبر طويت الصحف] ودخلوا المسجد يستمعون الذكر ) . فإن تركهم لكتابة الناس وإقبالهم على الاستماع دليل واضح على الائتمام ، بما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أيضا - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا قلت لصاحبك [ ص: 69 ] يوم الجمعة : أنصت ، والإمام يخطب فقد لغوت) قال الحليمي في الرابع من شعب الإيمان ، في الجواب عما أورد على قوله : لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله من أن التخصيص بالإنس والجن لا يمنع قدرة الملائكة على المعارضة ما نصه : وأما الملائكة فلم يتحدوا على ذلك ؛ لأن الرسالة إذا لم تكن إليهم لم يكن القرآن حجة عليهم ، فسواء كانوا قادرين على مثله أو عاجزين - وهم عندنا عاجزون - وقال في الخامس عشر في أن من أنواع تعظيمه الصلاة عليه فأمر الله عباده أن يصلوا عليه ويسلموا ، وقدم قبل ذلك إخبارهم بأن ملائكته يصلون عليه ، فأمر الله عباده لنبيهم بذلك على ما في الصلاة عليه من الفضل إذا كانت الملائكة مع انفكاكهم عن شريعته تتقرب إلى الله تعالى بالصلاة والتسليم عليه - ليعلموا أنهم بالصلاة والتسليم عليه أولى وأحق ، هذا نصه في الموضعين ، ولم يذكر لذلك دليلا ، ونسب الجلال المحلي في شرحه لجمع الجوامع مثل ذلك إلى البيهقي في الشعب فإنه قال : وصرح الحليمي والبيهقي في الباب الرابع من شعب الإيمان بأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يرسل إلى الملائكة ، وفي الباب الخامس عشر بانفكاكهم من شرعه ، قال : وفي تفسير الإمام الرازي والبرهان النسفي [ ص: 70 ] حكاية الإجماع في تفسير الآية الثانية - أي : ليكون للعالمين نذيرا أنه لم يكن رسولا إليهم . انتهى . وهو شهادة نفي - كما ترى - لا ينهض بما ذكرته من النصوص على أن الحليمي لم يقل بذلك إلا لقوله بأن الملائكة أفضل من الأنبياء ، كما نقله عنه الإمام فخر الدين في كتاب (الأربعين) والشيخ سعد الدين التفتازاني في (شرح المقاصد) وغيرهما ، ولم يوافقه على ذلك أحد من أهل السنة إلا القاضي أبو بكر الباقلاني ، فكما لم يوافق على الأصل لا يوافق على الفرع ، وأما البيهقي فإنما نقله عن الحليمي وسكوته عليه لا يوجب القطع برضاه ، قال الزركشي في شرح جمع الجوامع : وهي مسألة وقع النزاع فيها بين فقهاء مصر مع فاضل درس عندهم ، وقال لهم : الملائكة ما دخلت في دعوته ، فقاموا عليه ، وقد ذكر الإمام فخر الدين في تفسير سورة الفرقان الدخول محتجا بقوله تعالى : ليكون للعالمين نذيرا والملائكة داخلون في هذا العموم . انتهى . وهذا يقدح فيما نقل عنه من نقل الإجماع ، وعلى تقدير صحته ففيه أمور : أما أولا : فالإجماع لا يرجع إلا إلى أهل الاطلاع على المنقولات من حفاظ الآثار وأقاويل السلف فيه . وأما ثانيا : فإنه نقل يحتمل التصحيح والتضعيف ؛ لأنه بطرقه احتمال أن يكون نقل عمن لا يعتد به ، أو يكون [ ص: 71 ] أخذه عن أحد مذاكرة وأحسن الظن به ، أو حصل له سهو ، ونحو ذلك ، فلا وثوق إلا بعد معرفة المنقول عنه وسند النقل والاعتضاد بما يوجب الثقة ليقاوم هذه الظواهر الكثيرة. وأما ثالثا : فإنه سيأتي عن الإمام تقي الدين السبكي أن بعض المفسرين قال بالإرسال إلى الملائكة ، وقال الإمام ولي الدين أبو زرعة أحمد بن الحافظ زين الدين العراقي في شرحه (لجمع الجوامع) : وأما كونه مبعوثا إلى الخلق أجمعين فالمراد المكلف منهم ، وهذا يتناول الإنس والجن والملائكة ، فأما الأولان فبالإجماع ، وأما الملائكة فمحل خلاف فأين الإجماع ! هذا على تقدير صحة هذا النقل وأنى لمدعي ذلك به فإني راجعت تفسير الإمام للآية المذكورة فلم أجد فيه نقل الإجماع ، وإنما قال : ثم قالوا : هذه الآية تدل على أحكام : الأول : أن العالم كل ما سوى الله ، فيتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة ، لكنا نبئنا أنه - عليه السلام - لم يكن رسولا إلى الملائكة ، فوجب أن ينفى كونه رسولا إلى الجن والإنس جميعا ، وبطل قول من قال : إنه كان رسولا إلى البعض دون البعض . الثاني : أن لفظ " العالمين " يتناول جميع المخلوقات ، فتدل الآية على أنه رسول إلى المكلفين إلى يوم القيامة ، فوجب أن يكون خاتم الأنبياء والرسل - هذا لفظه في أكثر النسخ ، وفي بعضها : لكنا أجمعنا - بدل : نبئنا - وهي غير صريحة في إجماع الأمة - كما ترى - ولم يعين الموضع الذي أحال عليه في النسخ [ ص: 72 ] الأخرى - فليطلب من مظانه ويتأمل ، وأما النسفي فمختصر له - والله الموفق -. ثم رأيت في خطبة كتاب : ( الإصابة في أسماء الصحابة ) لشيخنا حافظ عصره أبي الفضل ابن حجر في تعريف الصحابي : وقد نقل الإمام فخر الدين في : ( أسرار التنزيل) الإجماع على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مرسلا إلى الملائكة ، ونوزع في هذا النقل ، بل رجح الشيخ تقي الدين السبكي أنه كان مرسلا إليهم واحتج بأشياء يطول شرحها . انتهى . والعجب من الرازي في نقل هذا الذي لا يوجد لغيره مع أنه قال في أسرار التنزيل في أواخر الفصل الثاني من الباب الثالث في الاستدلال بخلق الآدمي على وجود الخالق : الوجه الرابع - أي : في تكريم بني آدم - أنه جعل أباهم رسولا إلى الملائكة ؛ حيث قال : أنبئهم بأسمائهم وقد تقرر أن كل كرامة كانت لنبي من الأنبياء فلنبينا - صلى الله عليه وسلم - [مثلها أو أعظم] منها ، [وقال في تفسيره الكبير في وعلم آدم الأسماء ولا يبعد أيضا أن يكون مبعوثا إلى من يوجه التحذير إليهم من الملائكة ؛ لأن جميعهم وإن كانوا رسلا فقد يجوز الإرسال إلى الرسول لبعثة إبراهيم إلى لوط - عليهما السلام - . انتهى . وأنت خبير بأمر عيسى - عليه السلام - بعد نزوله من السماء] ، والحاصل أن رسالته - صلى الله عليه وسلم - إليهم - صلوات الله عليهم - رتبة فاضلة ودرجة عالية [ ص: 73 ] كاملة جائزة له ، لائقة بمنصبه ، مطابقة لما ورد من القواطع لعموم رسالته وشمول دعوته ، وقد دلت على حيازته لها ظواهر الكتاب والسنة مع أنه لا يلزم من إثباتها له إشكال في الدين ولا محذور في الاعتقاد ، فليس لنا التجريء على نفيها إلا بقاطع كما قال إمامنا الشافعي - رحمه الله - في كتاب ( الرسالة ) في آية الأنعام قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما قال : فاحتملت معنيين : أحدهما أن لا يحرم على طاعم يطعمه أبدا إلا ما استثنى الله - عز وجل - وهذا المعنى الذي إذا ووجه رجل مخاطبا به كان الذي يسبق إليه أنه لا يحرم [عليه] غير ما سمى الله - عز وجل - محرما ، وما كان هكذا فهو الذي يقال له أظهر المعاني وأعمها وأغلبها [والذي] لو احتملت الآية معاني سواه - كان هو المعنى الذي يلزم أهل العلم القول به إلا أن تأتي سنة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - تدل على معنى غيره مما تحتمله الآية ، فنقول : هذا معنى ما أراد الله - عز وجل - ولا يقال بخاص في كتاب الله ولا سنة إلا بدلالة فيهما أو في واحد [منهما] ، ولا يقال [ ص: 74 ] بخاص حتى تكون الآية تحتمل أن تكون أريد بها ذلك الخاص ، فأما ما لم تكن محتملة له فلا يقال فيها بما لا تحتمل الآية . انتهى . وشرحه الإمام أبو محمد بن حزم في المحلى فقال : ولا يحل لأحد أن يقول في آية أو [في] خبر : هذا منسوخ أو مخصوص في بعض ما يقتضيه ظاهر لفظه ، ولا أن لهذا النص تأويلا غير مقتضى ظاهر لفظه ، ولا أن هذا الحكم غير واجب علينا من حين وروده إلا بنص آخر وارد بأن هذا النص كما ذكر ، أو بإجماع متيقن بأنه كما ذكر ، أو بضرورة حس موجبة أنه كما ذكر ، برهانه : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم وقال : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ومن ادعى أن المراد بالنص بعض ما يقتضيه في اللغة العربية ، لا كل ما يقتضيه فقد أسقط بيان النص ، وأسقط وجوب الطاعة له بدعواه الكاذبة ، وليس بعض ما يقتضيه النص بأولى بالاقتصار عليه [ ص: 75 ] من سائر ما يقتضيه . انتهى . وقال أهل الأصول : إن الظاهر [ما] دل على المعنى دلالة ظنية ، أي : راجحة ، والتأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح ، فإن حمل عليه لدليل فصيح - أو لما نظن دليلا وليس في الواقع بدليل - ففاسد ، أو لا لشيء فلعب لا تأويل ، [قال الإمام الغزالي في كتاب المحبة من الإحياء في الكلام على أن رؤية الله تعالى في الآخرة هل هي بالعين أو بالقلب : والحق ما ظهر لأهل السنة والجماعة من شواهد الشرع أن ذلك يخلق في العين ، ليكون لفظ الرؤية والنظر وسائر الألفاظ الواردة في الشرع مجرى على ظاهره ؛ إذ لا يجوز إزالة الظواهر إلا لضرورة . انتهى] ، وقال الإمام تقي الدين السبكي في جواب السؤال عن الرسالة إلى الجن الذي تقدم في أول الكلام على هذه الآية أني رأيته بخطه : الآية العاشرة : ليكون للعالمين نذيرا قال المفسرون كلهم في تفسيرها : للجن والإنس ، وقال بعضهم : والملائكة . الثانية عشرة : وما أرسلناك إلا كافة للناس قال المفسرون : معناها : إلا إرسالا عاما شاملا لجميع الناس ، أي : ليس بخاص ببعض الناس ، فمقصود الآية نفي الخصوص وإثبات العموم ، ولا مفهوم لها فيما وراء الناس ، بل قوتها في العموم يقتضي عدم الخصوصية فيهم وحينئذ يشمل [ ص: 76 ] الجن ، ولو كان مقصود الآية حصر رسالته في الناس لقال : وما أرسلناك إلا إلى الناس ، فإن كلمة ( إلا ) تدخل على ما يقصد الحصر فيه ، فلما أدخلها على " كافة " دل على أنه المقصود بالحصر ، ويبقى قوله : " للناس " لا مفهوم له ، أما أولا فلأنه مفهوم قلب وأما ثانيا فلأنه لا يقصد بالكلام ، أما ثالثا فلأنه قد قيل : إن " الناس " يشمل الإنس والجن ، أي : على القول بأنه مشتق من النوس ، وهو التحرك ، وهو على هذا شامل للملائكة أيضا ، وممن صرح من أهل اللغة بأن " الناس " يكون من الإنس ومن الجن الإمام أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي في كتابه : ( ديوان الأدب ) ، قال السبكي : السابعة عشرة

إن هو إلا ذكر للعالمين الثامنة عشرة إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ونحوهما كقوله : لينذر من كان حيا وكذا قوله : هدى للمتقين وأما السنة فأحاديث : الأول حديث مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : ( وأرسلت إلى الخلق كافة ) ، ( إلى الخلق ... ) عام يشمل الجن بلا شك ، ولا يرد على هذا أنه ورد في روايات هذا الحديث من طرق أخرى في صحيح البخاري وغيره ( الناس) موضع ( الخلق ) لأنا نقول : ذلك من رواية جابر ، وهذا من رواية أبي هريرة ; فلعلهما حديثان ، وفي رواية الخلق زيادة معنى على الناس ، فيجب [ ص: 77 ] الأخذ به إذ لا تعارض بينهما ، ثم جوز أن يكون من روى ( الناس) روى بالمعنى فلم يوف به ، قال : وهذا الحديث يؤيد قول من قال : إنه مرسل إلى الملائكة ولا يستنكر هذا ، فقد يكون ليلة الإسراء يسمع من الله كلاما فبلغه لهم في السماء أو لبعضهم ، وبذلك يصح أنه مرسل إليهم ، ولا يلزم من كونه مرسلا إليهم من حيث الجملة أن يلزمهم جميع الفروع التي تضمنتها شريعته ، فقد يكون مرسلا إليهم في بعض الأحكام أو في بعض الأشياء التي ليست بأحكام ، أو يكون يحصل لهم بسماع القرآن زيادة إيمان ، ولهذا جاء فيمن قرأ سورة الكهف : فنزلت عليه مثل الظلة ، ثم قال في أثناء كلام : بخلاف الملائكة ، لا يلتزم أن هذه التكاليف كلها ثابتة في حقهم إذا قيل بعموم الرسالة لهم ، بل يحتمل ذلك ويحتمل في شيء خاص - كما أشرنا إليه فيما قبل - . انتهى . قلت : ولا ينكر اختصاص الأحكام ببعض المرسل إليهم دون بعض في شرع واحد في الأحرار والعبيد والنساء والرجال والحطابين والرعاء بالنسبة إلى بعض أعمال الحج وغير ذلك مما يكثر تعداده - والله الموفق ; ومن تجرأ على نفي الرسالة إليهم من أهل زماننا بغير نص صريح يضطره إليه ، كان ضعيف العقل مضطرب الإيمان مزلزل اليقين سقيم الدين ، ولو كان حاكيا لما قيل [ ص: 78 ] على وجه الرضا به ، فما كل ما يعلم يقال ، وكفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ، ولعمري! إن الأمر لعلى ما قال صاحب البردة وتلقته الأمة بالقبول ، وطرب عليه في المحافل والجموع :


دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم



التالي السابق


الخدمات العلمية