1. الرئيسية
  2. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
  3. سورة الأنعام
  4. قوله تعالى وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا
صفحة جزء
[ ص: 163 ] ولما أبدى هذه الأدلة في إبطال الضلال بالكواكب والشمس التي هي أوضح من الشمس ، عطف عليها الإخبار بأنهم لم يرجعوا إليه بل حاجوه ، فقال : وحاجه قومه بأنهم لا ينفكون عن عبادتها لأنهم وجدوا آباءهم كذلك ، وأنه إن لم يرجع عن الكلام فيها أصابته ببعض النوازل ، وذلك من أعظم التسلية لهذا النبي العربي الكريم - عليه أفضل الصلاة والتسليم - .

ولما كان من المعلوم أن محاجتهم بعد هذه الأدلة الواضحة في غاية من السقوط - سفلت عن الحضيض ، نزه المقام عن ذكرها ، إشارة إلى أنها بحيث لا يستحق الذكر ، وبين جوابه لما فيه من الفوائد الجمة بقوله : قال أي : بقول ، منكرا عليهم موبخا لهم : أتحاجوني وصرح باسم الرب العلم الأعظم في قوله : في الله أي شيء مما يختص به المستجمع لصفات الكمال لا سيما التوحيد وقد أي : والحال أنه قد هداني أي : أرشدني بالدليل القطعي إلى معرفة كل ما يثبت له وينفى عنه ، أي : لأنه قادر ، فبين أنه تعالى قد أحسن إليه ، فهو يرجوه لمثل ذلك الإحسان ، ويخافه من عواقب العصيان ؛ لأن من رجي خيره خيف ضيره ، ومن كان بيده النفع والضر والهداية والإضلال فهو من وضوح الأمر وظهور الشأن بحيث لا توجه نحوه [ ص: 164 ] المحاجة ، وأتبعه بيان أن معبوداتهم مسلوب عنها ما يوجه إليه الهمم ، فقال عاطفا على ما تقديره : فأنا أرجوه وأخافه ؛ لأنه قادر : ولا أخاف ما تشركون به ولا أرجوه لهداية ولا إضلال ولا غيرهما لأنه عاجز ، فأثبت لله القدرة بالهداية ؛ لأنها أشرف ، وطوى الإضلال لدلالتها ودلالة ما نفي في جانب الشركاء عليه ، وأثبت لآلهتهم العجز بنفي الخوف المستلزم لنفي القدرة على الضر . وذلك دال على أن الله تعالى أهل لأن يخاف منه . كل ذلك تلويحا لهم بأن العاقل لا ينبغي له أن يخالف إلا من يأمن ضره ، فهم في مخالفتهم لله في غاية من الخطر ، لا يرتكبها عاقل ، والآية من الاحتباك .

ولما نفى عن نفسه خوف آلهتهم أبدا في الحال والاستقبال ، وكان من الأمر البين في الدين الحق أنه لا يصح الإيمان إلا مع الإقرار بخفاء العواقب على العباد وإثبات العلم بها لله تسليما لمفاتيح الغيب إليه ، وقصرها عليه; قال مستثنيا من سبب النفي ، وهو أنها لا تقدر على شيء : إلا أن يشاء ربي المحسن إلي في حال الضر كما هو محسن في حال النفع شيئا أي : من تسليطها بأنفسها أو باتباعها ؛ لأنه قادر على ما يريد ، فإن أراد أنطق الجماد وأقدره ، وأخرس الناطق الفصيح وأعجزه ، فأنا لا أخاف في الحقيقة غيره .

[ ص: 165 ] ولما كان هذا في صورة التعليق ، وكان التعليق وما شابهه من شأنه أن لا يصدر إلا من متردد ، فيكون موضع إطماع للخصم فيه ، علله بما أزال هذا الخيال ، فقال : وسع ربي كل شيء علما أي : فأحاط بكل شيء قدرة ، فهو إذا أراد إقدار العاجز أزال عنه كل مانع من القدرة ، وأثبت له كل مقتض لها ، وذلك ثمرة شمول العلم - كما سيأتي برهانه - إن شاء الله تعالى - في سورة ( طه ) ، فالمراد أني ما تركت الجزم لشك عندي ، وإنما تركته لعدم علمي بالعواقب إعلاما بأن تلك رتبة لا تصلح إلا لله الذي وسع علمه كل شيء ، وأدل دليل على هذا اتباعه له بإنكاره عليهم عدم الإبلاغ في التذكر بقوله مظهرا تاء التفعل إشارة إلى أن في جبلاتهم أصل التذكر الصاد عن الشرك : أفلا تتذكرون أي : يقع منكم تذكر ، فتميزوا بين الحق والباطل بأن تذكروا مآلكم من أنفسكم بأن من غاب عن مربوبه فسد أو كاد ، وأن هذه الجمادات لا تنفع ولا تضر ، وأنها مصنوعكم ،

التالي السابق


الخدمات العلمية