صفحة جزء
ولما ثبتت الوحدانية والنبوة والرسالة وتقاريع من تقاريعها ، وانتهى الكلام هنا إلى ما تجلى به مقام العظمة ، وانكشف له قناع الحكمة وتمثل نفوذ الكلمة ، فتهيأ السامع لتأمله ، وتفرغ فهمه لتدبره - قال دالا عليه مشيرا إليه ، معلما أن ما مضى أنتجه وأظهره لا بد وأبرزه ، مذكرا بآياته والذين يؤمنون بالآخرة وبمحاجة إبراهيم - عليه السلام - مصرفا ما مضى أول السورة من دلائل الوحدانية على أوجه أخرى ، إعلاما بأن دلائل الجلال تفوق عدد الرمال ، وتنبيها على أن القصد بالذات معرفة الله تعالى بذاته وصفاته : إن الله أي : الذي له جميع صفات الكمال ، فهو قادر على كل ما يريد فالق الحب أي : فاطره وشاقه عن الزروع والنبات ، وعبر بذلك لأن الشيء قبل وجوده كان معدوما ، والعقل يتوهم ويتخيل من العدم ظلمة متصلة ، [ ص: 195 ] فإذا خرج من العدم المحض والفناء الصرف فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم والنوى أي : وهو ما يكون داخل الثمار المأكولة كالتمر ، ولا يكون مقصودا لذاته بفلقها عن الأشجار ، وفي ذلك حكم وأسرار تدق عن الأفكار ، وتدل على كمال الواحد المختار ; قال الإمام الرازي ما حاصله : إن النواة والحبة تكون في الأرض الرطبة مدة ، فيظهر الله فيها شقا في أعلاها وآخر في أسفلها ، وتخرج الشجرة من الأعلى فتعلو وتهبط من الأسفل شجرة أخرى في أعماق الأرض ، هي العروق ، وتلك الحبة أو النواة سبب واصل بين الشجرتين : الصاعدة والهابطة ، فيشهد الحس والعقل بأن طبع الصاعدة والهابطة متعاكس ، وليس ذلك قطعا بمقتضى الطبع والخاصية ، بل بالإيجاد والاختراع والتكوين والإبداع ، ولا شك أن العروق الهابطة في غاية اللطافة والرقة بحيث لو دلكت باليد بأدنى قوة صارت كالماء ، وهي مع ذلك تقوى على النفوذ في الأرض الصلبة التي لا ينفذ فيها المسلة والسكين الحادة إلا بإكراه عظيم ، فحصول هذا النفوذ لهذه الأجرام اللطيفة لا يكون قطعا إلا لقوة الفاعل المختار ، لا سيما إذا تأملت ظهور شجرة من نواة صغيرة ، ثم تجمع الشجرة طبائع مختلفة في قشرها ثم فيما تحته من جرم الخشبة ، وفي وسط تدوير الخشبة جرم ضعيف كالعهن المنفوش ، ثم يتولد من ساقها أغصانها ، ومن الأغصان أوراقها [ ص: 196 ] أولا ثم أنوارها وأزهارها ثانيا ، ثم الفاكهة ثالثا ، ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشور ، مثل الجوز واللوز قشره الأعلى ذلك الجرم الأخضر ، وتحته القشر الذي كالخشب ، وتحته القشر الذي كالغطاء الرقيق المحيط باللبة ، وتحته اللب المشتمل على جرم كثيف هو أيضا كالقشرة ، وعلى جرم لطيف هو الزهر ، وهو المقصود بالذات ، فتولد هذه الأجسام المختلفة طبعا وصفة ولونا وشكلا وطعما مع تساوي تأثيرات الطبائع والنجوم والعناصر والفصول الأربعة - دال على القادر المختار بتلوه في الفرحة ، وقد تجتمع الطبائع الأربعة في الفاكهة الواحدة كالأترج ، قشره حار يابس ونوره حار يابس ، وكذلك العنب قشره وعجمه يابس حار رطب مع أنك تجد أحوالها مختلفة ، بعضها لبه في داخله وقشره في خارجه كالجوز واللوز ، وبعضها يكون المطلوب منه في الخارج وخشبه في الداخل كالخوخ والمشمش ، وبعضه لا لب لنواه كالتمر ، وبعضه يكون كله مطلوبا كالتين ، واختلاف هذه الطبائع والأحوال المتضادة والخواص المتنافرة حتى في الحبة الواحدة لا يكون عن طبيعة ، بل عن الواحد المختار ، والحبوب مختلفة الألوان والأشكال والصور ، فشكل الحنطة كأنه نصف مخروط ، وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتيهما وشكل الحمص على وجه آخر ، وأودع - سبحانه - في كل نوع منها خاصية ومنفعة غير ما في الآخر ، وقد تكون الثمرة غذاء لحيوان [ ص: 197 ] وسما لحيوان آخر ، فهذا الاختلاف مع اتحاد الطبائع وتأثيرات الكواكب دال على أنها إنما حصلت بالفاعل المختار ، ثم إنك تجد في ورقة الشجرة خطا في وسطها مستقيما نسبته لتلك الورقة نسبة النخاع إلى بدن الإنسان ، ينفصل عنه خيوط مختلفة ، وعن كل واحد منها خيوط أخرى أدق من الأولى ، ولا يزال على هذا النهج حتى تخرج الخيوط عن الحس والبصر ، كما أن النخاع يتفصل منه أعصاب كثيرة يمنة ويسرة في البدن ، ثم لا يزال يتفصل عن كل شعبة أخرى ، ولا يزال يستدق حتى تلطف عن الحس ، فعل - سبحانه - ذلك في الورقة لتقوى القوى المذكورة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة ، فهذا يعلمك أن عنايته - سبحانه - في اتخاذ جملة تلك الشجرة أكمل ، فعنايته في تكوين جملة النبات أكمل ، وهو إنما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوان فعنايته في تخليق الحيوان أكمل ، والمقصود من تخليق جملة الحيوان هو الإنسان فعنايته في تخليقه أكمل ، وهو – سبحانه - إنما خلق الحيوان والنبات في هذا العالم ليكون غذاء ودواء للإنسان بحسب جسده ، والمقصود من جسده حفظ تركيبه لأجل المعرفة والمحبة والعبودية ، فسبيلك أن تنظر في ورقة الشجرة وتتأمل في تلك الأوتار ثم تترقى منها إلى أوج تخليق الشجرة ثم إلى ما فوقها رتبة رتبة لتعلم أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية ، وحينئذ ينفتح لك باب من المكاشفات لا آخر له ، ويظهر لك أن نعم الله في خلقك غير متناهية

وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها والله الهادي .

[ ص: 198 ] ولما كان فلقهما عن النبات من جنس الإحياء ؛ لما فيه من النمو فسر معنى الفلق وبينه إشارة إلى الاعتناء به وقتا بعد وقت بقوله : يخرج أي : على سبيل التجدد والاستمرار تثبيتا لأمر البعث الحي أي : كالنجم والشجر والطير والدواب من الميت من الحب والنوى والبيض والنطف فكيف تنكرون قدرته على البعث; ولما انكشف معناه وبان مغزاه بإخراج الأشياء من أضدادها لئلا يتوهم - لو كان لا يخرج عن شيء إلا مثله - أن الفاعل الطبيعة والخاصية - عطف على " فالق " زيادة في البيان قوله معبرا باسم الفاعل الدال على الثبات لأنه لا منازعة لهم فيه ، فلم تدع حاجة إلى التعبير بالفعل الدال على التجدد : ومخرج الميت أي : من الحب وما معه من الحي أي : من النجم وما معه .

ولما تقررت له - سبحانه - هذه الأوصاف التي لا قدرة أصلا لأحد غيره على شيء منها ، قال منبها لهم على غلطهم في إشراكهم ، إعلاما بأن كل شريك ينبغي أن يساوي شريكه في شيء ما من الأمر المشرك فيه ، ولا مكافئ له - سبحانه وتعالى - في شيء من الأشياء فلا شريك له بوجه : ذلكم أي : العالي المراتب المنيع المراقي هو الله أي : المستجمع لصفات الكمال وحده فلا يحق الإلهية إلا له; ولما كان هذا [ ص: 199 ] معنى الكلام ، سبب عنه قوله : فأنى أي : فكيف ومن أي وجه تؤفكون أي : تصرفون وتقلبون عما ينبغي اعتقاده .

التالي السابق


الخدمات العلمية