صفحة جزء
ولما ذكر وجوه الإبداع التفريعي من هذين الكونين وأسباب البقاء له بما ينشأ [عنه] الفصول وغيرها ، أتبعه سببه القريب ، وهو الماء الذي جعل منه كل شيء حي ، فقال مفصلا ما أجمله في الحب والنوى ، سائقا له مساق الإحسان لما قبله من الدلائل ، فإن الدليل إذا كان على وجه الإحسان ومذكرا بالإنعام كان تأثيره في القلب عظيما ، فينبغي للمشتغل بدعوة الخلق أن يسلك هذا المسلك [ليكون للقلوب أملك] : وهو أي : لا غيره الذي أنـزل أي : بقدرته وعلمه وحكمته من السماء أي : الحقيقية التي تعرفونها كما دل عليه صريح العبارة وما أشبهها من ذكور الحيوان المنبه عليه بطريق الإشارة ماء أي : منهمرا ودافقا .

ولما كان تفريع الخلق من الماء بمكان من العظمة لا يوصل إليه - نبه عليه بالانتقال إلى التكلم في مظهر العظمة ، فقال : فأخرجنا أي : على [ ص: 209 ] ما لنا من العظمة التي لا يدانيها أحد به أي : الماء نبات كل شيء مختلفة طعومه وألوانه وروائحه وطبائعه ومنافعه وهو بماء واحد ، فالسبب واحد والمسببات كثيرة منفتة ، سواء كان ذلك النبات حقيقيا من النجم والشجر ، أو مجازيا من الأنثى والذكر; ثم سبب عن الحقيقي لظهوره قوله دالا على العظمة : فأخرجنا منه أي : النبات خضرا أي : شيئا أخضر غضا طريا ، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة; ثم زاد في بيان عظمته بقوله : نخرج أي : حال كوننا مقدرين أن نخرج منه أي : من ذلك الخضر حبا متراكبا أي : في السنبل يركب بعضه بعضا [ويحرسه من أن يلتقطه الطير بعد ستره بالقشر بحسك طويل لطيف جدا كالإبر خشن] ، بعد أن كان أصله حبة واحدة على صورتها ، أو منفتة في التراب بعد أن طوره - سبحانه - في عدة أطوار ، إن فاعل ذلك لقادر مختار .

ولما كان نسبة الإخراج والإبداع إليه - سبحانه - وحده في مظهر العظمة خصوصا وعموما ، فعلم أن الكل منه ، وصار الحال في حد من الوضوح جدير بأن يؤمن من نسبة شيء إلى غيره لا سيما الذي هم له معالجون ، وبالعجز عن إبداعه عالمون ، وبدأ بما بدأ به أولا في آية الفلق من الحب; ثنى بما من النوى ، فقال معبرا لذلك الأسلوب : ومن النخل وتقديم الحب عليه هنا وفيما قبل يدل على أن الزرع أفضل منه ، فإنه قوت في أكثر البلاد ولأغلب الحيوانات [والغذاء [ ص: 210 ] مقدم على الفاكهة]; فإنها خلقت من طينة آدم ; ثم أبدل مما أجمل من ذلك قوله مبينا : من طلعها أي : النخل ، وهو أول ما يخرج منها في أكمامه قنوان جمع قنو ، وهو العذق بالكسر للشمراخ وهو الكباسة ، والعرجون عوده الذي يكون فيه البسر دانية أي : قريبة التناول وإن طال أصلها بما علمكم وسهل لكم من صنعة الوصول إليها .

ولما لم يكن لهم من معالجة الأعناب وغيرها ما لهم من معالجة النخيل ، عطف على ( نبات) منبها لهم على أنها - كالنخيل - هو - سبحانه - المتفرد بإبداعها [كما تقدم ، فقال : وجنات أي : بساتين من أعناب وجمعها لكثرة أنواعها] ، وبدأ بهاتين الشجرتين لفضلهما - كما تقدم - على غيرهما ؛ لأن ثمرهما فاكهة وقوت ، وقدم الأول لأنهم له أكثر ملابسة ، وإن كان العنب أشرف أنواع الفواكه ، فإنه ينتفع به من أول ظهوره لأنه [أولا] يكون له خيوط خضر دقيقة حامضة لذيذة ، ثم تكون الحصرم ، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى ، وقد يتخذ منه رب الحصرم وأشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء ، ويطبخ منه ألذ الأطعمة الحامضة ، وهو - عنبا - ألذ الفواكه وأشهاها ، ويدخر عنبا قريبا من سنة ، ويكون زبيبه غذاء ، ويكون منه الدبس والخل وغير ذلك ، وأحسن ما فيه عجمه ، وهو يتخذ منه جوارشات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة [ ص: 211 ] [وقدم النخيل لأنها قوت للعرب ، وبينها وبين الإنسان مشابهة في خواص كثيرة لا توجد في النبات ؛ ولذا جاء في الحديث : ( أكرموا عمتكم النخلة ؛ فإنها خلقت من طينة آدم - عليه السلام - وليس من الشجر يلقح غيرها) - رواه أبو يعلى وأبو نعيم في الحلية وأبو الشيخ عن علي - رضي الله عنه- وأتبعهما ما يليهما في الفضيلة ، فقال : والزيتون [و] قدمه لكثرة نفعه ، وينفصل منه دهن عظيم النفع في الأكل والضياء وسائر وجوه الاستعمال والرمان ختم به لحسنه وعظيم نفعه ، وهو مركب من أربعة أشياء : قشره وشحمه وعجمه ومائه ، فالثلاثة الأول باردة يابسة أرضية كثيفة عفصية فائضة جدا، والماء بضدها وهو ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطبع المعتدل ، وفي ذلك تقوية للمزاج الضعيف ، وهو غذاء من وجه ودواء من وجه .

ولما ذكر الأقوات من الثمار والحبوب والأدهان وأشرف الفواكه وأعمها ، وكانت أشبه شيء بالآدمي في نشـئه وبعثه واتفاقه واختلافه ، وكان اشتباه بعضها واختلاف بعضها - مع كونها تسقى بماء واحد وفي أرض واحدة - دالا على القدرة والاختيار ، وكان السياق لإثبات الوحدانية ونفي الشريك بإثبات كمال القدرة التي هي منفية عن غيره ، فلا يصح أن يكون له شريك ؛ لأنه لا يكون إلا مشابها [ ص: 212 ] لشريكه كمال المشابهة فيما وقعت الشركة فيه ، وللبعث فكان المراد التفكر في ظواهرها وتقلباتها من العدم إلى الوجود وبعد الوجود ، ولمحاجة أهل الكتاب الموسومين بالعلم المنسوبين إلى حدة الأذهان وغيرهم من الفرق ، وكان افتعل يأتي للتعريف ، وهو المبالغة في إثبات أصل الفعل والاجتهاد في تحصيله والاعتمال ، فكان حصوله إذا حصل أكمل ، قال بانيا حالا من كل ما تقدم : مشتبها أي : في غاية الشبه بعضه لبعض حتى لا يكاد يتميز ، فلو قطع ثمرتا شجرتين منه لم يتميز ثمرة هذه من ثمرة هذه ، فلا يقابله حينئذ نفي التفاعل ، فإنه لمجرد مشاركة أمرين أو أكثر في أصل الفعل ، فعلم أن التقدير : وغير مشتبه ومتشابها ، ثم لما كان ربما تمسك القائل بالطبائع بهذه العبارة - نفى ما ربما ظن من أن لهذه الأشياء عملا في اشتباه بعضها ببعض فقال : وغير متشابه أي : غير طالب للاشتباه مع أنه لا بد من شبه ما ، فالآية من الاحتباك : أثبت الاشتباه دلالة على نفي ضده ، وهو عدم التشابه ، ولأجل أن الاشتباه أبلغ من التشابه - علق الأمر بالنظر الذي هو أثبت الحواس ، ودلالة على أن [ ص: 213 ] المراد إنما هو ظاهر ذلك ؛ لأنه كان في الدلالة على البعث والتوحيد الذي هذا سياقه ، فقال : انظروا إلى ثمره وهذا بخلاف الحرف الثاني ، فإنه في سياق الرد على العرب فيما يجعلون من خلقه لأصنامهم التي لا قدرة لها على شيء أصلا ؛ ولذلك ختم الآية بالإذن لهم في الأكل منه للانتهاء عما كانوا يحرمونه منه على أنفسهم ، وبالأمر بالتصدق على من أمر بالصدقة عليه ، وأما الباطن الذي هو الأكل فسيأتي. ثم نبه على تعميم النظر في جميع حالاته بقوله : إذا أثمر أي : حين يبدو من كمامه ضعيفا قليل النفع أو عديمه وينعه أي : وانظروا إلى إدراكه إذ أدرك وحان قطافه ، ويعلم من ذلك النظر فيما بين ذلك ؛ لأنه يلزم من مراقبة الأول والآخر ، فيعلم استحالة ألوانه ومقاديره وطعومه وأشكاله وغير ذلك من شؤونه وأحواله ، ويلزم من ذلك أيضا النظر إلى أشجاره ليعلم تفاوت بعضها واشتباه البعض الآخر في الطول والقصر والصغر والكبر وغير ذلك من سائر الأحوال ، كما أن ذلك موجود في التمر ، فاستناد هذه التبدلات والتغيرات ليس إلا إلى الفاعل المختار ؛ لأن نسبته إلى الطبائع والفصول على حد سواء ، فلو استندت إليها لم تتغير .

ولما كان اتخاذ هذه المذكورات أولا والمخالفة بين أشكالها ومقاديرها وألوانها ثانيا دالا على كمال القدرة المستلزم للوحدانية ، دل على عظمته بقوله مستأنفا مشيرا بأداة البعد وميم الجمع : إن في ذلكم [ ص: 214 ] أي : الأمر العظيم الشأن العالي الرتبة لآيات أي : علامات على قدرة الصانع واختياره .

ولما كانت الآيات لا تغني عمن أريدت شقاوته قال : لقوم يؤمنون أي : حكم بأنهم - بحذقهم ونشاطهم وقوتهم على ما يحاولونه - يجددون الإيمان كلما تأملوا في مصنوعات الله - سبحانه وتعالى - الدالة عليه المشيرة بكل لسان إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية