صفحة جزء
ولما تقدم أنه تعالى أعلم بمن طبع على قلبه فلا ينفك عن الضلال ، ومن يقبل الهداية في الحال أو المآل ، وأن مكر المجرمين إنما هو بإرادته ونافذ قدرته - علم أن الأمر أمره ، والقلوب بيده ، فتسبب عن ذلك قوله : فمن يرد الله أي : الذي له جميع الجلال والإكرام أن يهديه أي : يخلق الهداية في قلبه من أكابر المجرمين أو غيرهم يشرح صدره أي : يوسعه بأن يجعله مهيئا قابلا بالنور للإسلام قال الإمام أبو جعفر النحاس : روي أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : (يا رسول الله! وهل ينشرح الصدر؟ فقال : نعم ، يدخل القلب نور ، فقال : وهل لذلك من علامة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد [ ص: 259 ] للموت قبل الموت) ، وفي رواية : الفوت ومن يرد أي : الله ، ولم يظهر هنا إشارة إلى أن الضلال على مقتضى الطبع أن يضله أي : يخلق الضلال ويديمه في قلبه يجعل صدره أي : الذي هو مسكن قلبه الذي هو معدن الأنوار ضيقا حرجا أي : شديد الضيق فيكون مرتجسا أي : مضطربا ، روي أن عمر - رضي الله عنه - أحضر أعرابيا من كنانة من بني مدلج فقال له : ما الحرجة؟ فقال : شجرة لا تصل إليها وحشية ولا راعية ، وساق البغوي القصة ولفظه : وقال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية لا وحشية ولا شيء - ثم اتفقا - فقال عمر - رضي الله عنه - : كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الإيمان والخير; وزاد البغوي : قال سيبويه : الحرج - بالفتح المصدر ، ومعناه : ذا حرج ، وبالكسر الاسم وهو أشد الضيق ، وقال المهدوي : هنا الحرج الشديد الضيق وقد تقدم القول فيه ، وقال في النساء في قوله تعالى : ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت أي : ضيقا ، وإلى هذا المعنى يرجع قول مجاهد : إنه الشك ، وقول الضحاك : إنه الإثم ، كأنه ضيق شك أو ضيق إثم; وقال [ ص: 260 ] النحاس : حرجا مما قضيت أي : شكا وضيقا ، وأصل الحرج الضيق . انتهى . وتحقيق ذلك أن الآية هنا فيها - - بعد التأكيد بالإتيان بصيغة فعيل دون فاعل- تأكيد آخر إما بالمصدر أو باسم الفاعل ، فأفاد زيادة على أصل الفعل وهي الشدة فيه ، فمعنى الفتح : ضيقا - بكسر الضاد وإسكان [الياء] ومعناه - إن كسرت (حرجا) - ضيقا ، بإعادة اسم الفاعل ، ومادة (حرج) بخصوص هذا الترتيب تدور على المكان الضيق الكثير الشجر ، ويلزمه الشخوص على وجه الأرض والارتفاع والجمع والمنع والشدة والحيرة والحر والبرد ، وهي - بأي ترتيب كان وهي خمسة : (حرج) (جحر) (رجح) (حجر) (جرح) - تدور على الحجر الذي هو الجسم المعروف ، ويلزمه الثقل والمنع والحدة والشخوص والصلابة التي هي القسوة ويلزمها الضيق ، فيرجع إلى الصلابة الحرج بمعنى الضيق ، والحرجة للغيضة ، والحرج للقلادة من الودع ، والحرجوج للريح الشديدة الباردة ، والناقة الحرجوج للوقادة القلب ، ويجوز رجوعها إلى الحدة ، والجرح لسرير الموتى لضيق الصدر من ذكره ، ولضيقه [ ص: 261 ] عن أسرة الأحياء ، ومنه أيضا جحر الضب ونحوه للثقب المحتفر في الأرض ، ويرجع إلى الثقل الحرج بمعنى الإثم ، وينشأ عن ذلك البعث المفضي إلى الحيرة ، ومنه حرجت عينه - أي : حارت - فلا تطرف ، ويلزم الثقل أيضا الجرح بمعنى الطعن النافذ في البدن ، ومن ذلك اجترح - إذا اكتسب مالا ؛ لأنه من آثاره ، ومنه الرجحان بمعنى الثقل ، والحكم الراجح الذي يوجب رزانة صاحبه ، ومنه الأرجوحة لأن كلا من طرفيها يرجح بالآخر ، ويرجع إلى المنع الحجر بمعنى العقل وبمعنى الحضن والحرام والفرس الأنثى لأنها قد تمنع من الركوب للحمل أو الولد ، والحجر في المال ، والحجرة للناحية القريبة لأن الشيء إذا بعد عنك - ولو قدر باع - امتنع منك ، وكان التأنيث فيه لقربه ، ويرجع إلى الشخوص الحرج للناقة الطويلة; وقال الإمام أبو الفتح بن جني - رحمه الله - في كتابه (المحتسب في توجيه القراءات الشواذ) عند قوله تعالى في هذه السورة (وحرث حرج) فيمن قرأ بتقديم الراء : إن جميع تراكيب هذه المادة الخمسة تلتقي معانيها في الضيق والشدة والاجتماع ، وإذا أنعمت النظر وتركت الملل والضجر وجدت الأمر كما قال [ ص: 262 ] - والله أعلم - نحو الحجر واستحجر الطين والحجرة وبقيته ، وكله إلى التماسك والضيق ، ومنه الحرج للضيق والجرح مثله ، والحرجة ما التف من الشجر فلم يمكن دخوله ، ومنه الحجر وبابه لضيقه ، ومنه الجرح لمخالطة الحديد للحم وتلاحمه عليه ، ومنه رجح الميزان - لأنه مال أحد شقيه نحو الأرض فقرب منها وضاق ما كان واسعا بينه وبينها ، فإن قلت : فإنه إذا مال أحدهما إلى الأرض فقد بعد الآخر؟ قيل : كلامنا على الراجح والراجح هو الذي إلى الأرض ، فأما الآخر فلا يقال له : راجح ، وإذا ثبت ذلك - وقد ثبت - فكذلك قوله تعالى : وحرث حجر في معنى (حجر) ، معناه عندهم أنها ممنوعة محجورة لن يطعمها إلا من يسألون أن يطعموه إياها بزعمهم . انتهى .

ولما كان صاحب هذا الصدر لا يكاد الهداية تصل إليه ، وإن وصل إليه شيء منها على لسان واعظ ومن طريق مرشد ناصح لم تجد مسلكا فنكصت ، وهكذا لا تزال في اضطراب وتردد أبدا; كانت ترجمته قوله : كأنما يصعد أي : يتكلف هذا الشخص - في قبول الهداية - الصعود في السماء في خفاء وحياء من مزاولة ما لا يمكن ، بما أشار إليه قراءة من أدغم التاء في الصاد ، فكلما أصعدته حركته الاختيارية أهبطته [ ص: 263 ] حركته الطبيعية القسرية ، كما نرى بعض الحشرات يحمل شيئا ثقيلا ويصعد به في جدار أملس ، فيصير يتكلف ذلك فيقع ، ثم يتكلف الصعود أيضا فربما وصل إلى مكانه الأول وسقط ، وربما سقط دونه ، فهو مما يمتنع عادة ، فلا يزال مرتجسا أي : مضطربا ومجامع الاضطراب عقبه بما بعده - كما يأتي - .

ولما كان ما وصف به صدر الضال مما ينفر منه ، وكان الرجس في الأصل لما يستقذر ، والمستقذر ينفر منه ، وكان هذا الكلام ربما أثار سؤالا ، وهو أن يقال : هل هذا - وهو جعل الضال على هذه الصفة - خاص بأهل هذا الزمان ، أجيب بما حاصله : لا ، كذلك أي : مثل ما جعل الله الرجس على من أراد ضلاله من أهل هذا الزمان يجعل الله أي : بما له من القدرة التامة والعظمة الباهرة الرجس أي : الاضطراب والقذر على الذين لا يؤمنون من أهل كل زمان لإرادته - سبحانه - دوام ضلالهم ، فالآية من الاحتباك : ذكر أولا الضلال دليلا على حذفه ثانيا ، وذكر الرجس ثانيا دليلا على حذفه أولا ، والآية نص في أن الله يريد هدى المؤمن وضلال الكافر .

التالي السابق


الخدمات العلمية