ولما كان مدار القرآن على تقرير التوحيد والنبوة وتوابعها والمعاد والقضاء والقدر والفعل بالاختيار ، وأتقن تقرير هذه الأصول لا سيما في هذه السورة ، وانتهى إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء ، وعجب - سبحانه - ممن أشرك وأنكر البعث وفعل أفعال المشركين تعجيبا بعد تعجيب ، وهجن طريقتهم ووبخهم توبيخا في إثر توبيخ بتكذيبهم للداعي من غير حجة ، وحكى أقوالهم الباطلة ودعاويهم الفاسدة مع ادعائهم أنهم  
[ ص: 289 ] أنصف الناس ، ومخالفتهم للهادي بغير ثبت ولا بينة مع ادعائهم أنهم أبصر الناس ، وبطلبهم للآيات تعنتا مع ادعائهم أنهم أعقل الناس ، وإخلاصهم في الشدة وإشراكهم في الرخاء مع ادعائهم أنهم أشكر الناس ، وعبادتهم للجن وتعوذهم بهم مع ادعائهم أنهم أشجع الناس - إلى أن عجب منهم فيما شرعوه لأنفسهم فيما رزقهموه - سبحانه - من حيوان وجماد ومضوا عليه خلفا عن سلف ، تنبيها على ضعف عقولهم وقلة علومهم تنفيرا للناس عن الالتفات إليهم والاغترار بأقوالهم ، قال في موضع الحال من 
وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام مبينا عظيم ملكه وشمول قدرته وباهر اختياره وعظمته ، زيادة في التعجيب منهم في تصرفهم في ملكه بغير إذنه [سبحانه] وشرعهم ما لم يأذن فيه في سياق كافل بإقامة الحجة على تقرير التوحيد عودا على بدء وعللا بعد نهل ؛ لأنه المدار الأعظم والأصل الأقوم : 
وهو أي : لا غيره 
الذي أنشأ أي : من العدم 
جنات أي : من العنب وغيره 
معروشات  [أي : مرفوعات عن الأرض على الخشب ونحوه] ، أي : لا تصلح إلا معروشة ، ومتى لم ترفع عن الأرض تلف ثمرها 
وغير معروشات أي : غير مرفوعات على الخشب ، أي : لا تصلح إلا مطروحة على الأرض مثقلة بما يحكم وصولها إليها ، ومتى ارتفعت  
[ ص: 290 ] عن الأرض تلفت ، فما ذلك لطبيعة ولا غيرها وإلا لاستوت الجنات كلها لأن نسبتها إلى السماء والأرض واحدة ، فما اختلف إلا بفاعل مختار واحد لا شريك له ، لا يكون إلا ما يريد . 
ولما ذكر الجنات الجامعة ، خص أفضلها [وأدلها على الفعل بالاختيار ، وبدأ بأشهرها عند المخاطبين بهذه الآيات] فقال : 
والنخل أي : وأنشأ النخل 
والزرع حال كونه 
مختلفا أكله أي : أكل أحد النوعين ، وهو ثمره الذي يؤكل بالنسبة إلى الآخر ، وأكل كل نوع بالنسبة إلى الأشجار وغيرها في الحمل والطعم وغيره ، بل ويوجد في العذق الواحد الاختلاف ، وأما اختلاف مقداره بكون هذا في غاية الطول وهذا في غاية القصر فأمر واضح جدا 
والزيتون والرمان 
[ولما كان معظم القصد في هذا السياق نفي الشريك وإثبات الفعل بالاختيار ، لم يدع الحال إلى ذكر كمال الشبه فاكتفى بأصل الفعل فقيل] : 
متشابها أي : كذلك 
وغير متشابه أي : في اللون والطعم والفساد وعدمه والتفكه والاقتيات والدهن والماء - إلى غير ذلك من أحوال وكيفيات لا يحيط بها حق الإحاطة إلا بارئها - سبحانه وعز شأنه - ولعله جمع الأولين لأن كلا منهما يدخر للاقتيات ولا يسرع فساده مع المفارقة في الشكل ، والاختلاف في النوع بالشجر والنجم ، والتفاوت العظيم في المقدار ، والأخيرين لأن الأول لا يفسد بوجه ، والثاني يسرع  
[ ص: 291 ] فساده ، ويدخر كل منهما على غير الهيئة التي يدخر عليها الآخر مع كونهما من الأشجار وتقاربهما في المقدار وتفاوت ثمرتهما في الشكل والقدر وغير ذلك . 
ولما كان قوله 
وهو الذي أنـزل من السماء ماء في سياق الاستدلال على أنه لا فاعل إلا الله ، أمر فيه بالنظر إلى الثمر والينع ليعتبر بحالهما ، وكانت هذه الآية في سياق التعنيف لمن حرم ما رزقه الله والأمر بالأكل من حلال ما أنعم به والنهي عن تركه تدينا ، فقال تعالى هنا : 
كلوا وقدم الأولى المستدل بها على وجود البارئ وتفرده بالأمر لأن اعتقاد ذلك سعادة روحانية أبدية. وقال 
أبو حيان  في (النهر) : لما كان مجيء تلك الآية في معرض الاستدلال بها على الصانع وقدرته والحشر وإعادة الأرواح إلى الأجساد بعد العدم وإبراز الجسد وتكوينه من [العظم] الرميم وهو عجب الذنب ، قال 
انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إشارة إلى الإيجاد [أولا] وإلى غايته ، وهنا لما كان في معرض الامتنان وإظهار الإحسان بما خلق لنا قال : [كلوا] ، ودل على أن الرزق أكثر من خلقه بقوله : 
من ثمره ولما كان هذا الأمر للإباحة لا للإرادة - قيده لئلا يقتضي إيجاد الثمر في كل جنة في كل وقت ، فقال : 
إذا أثمر فحصل بمجموعها الحياة الأبدية والحياة  
[ ص: 292 ] الدنياوية السريعة الانقضاء وتقدم النظر وهو الفكر على الأكل لهذا السبب . انتهى . وعبر بـ (إذا) دون (إن) تحقيقا لرجاء الناس في الخصب وتسكينا لآمالهم رحمة لهم ورفقا بهم إعلاما أنه إن وقع جدب كان في ناحية دون أخرى وفي نوع دون آخر ، وإباحة للأكل في جميع أحوال الثمرة نضيجة وغير نضيجة . 
ولما كان في الآيات الحاكية مذاهب الكفار تقبيح أن يجعلوا شيئا من أموالهم لأحد بأهوائهم - أشار هنا إلى أنه فرض فيها حقا وجعل له مصارف بقوله : 
وآتوا حقه ولما أباح - سبحانه - أكله ابتداء وانتهاء ، بين أنه خفف عنهم الوجوب قبل الانتهاء ، فقال : 
يوم حصاده أي : قطعه جذاذا كان أو حصادا ، فكذلك أول وقت نصاب الأمر وهو موسع ، والحق أعم من الواجب والمندوب ، فإن أريد الندب عم الأنواع الخمسة الماضية : العنب المشار إليه بالعرش وما بعده ، وإن أريد الوجوب فقد أشير بالتعبير بالحصاد إلى أن الأصل في ذلك الحبوب المقتاتة ، وأما غيرها فتابع علمه ببيان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيطلق عليه الحصاد مجازا . 
ولما 
أمر الله بالأكل من ثمره وبإيتاء حقه  - نهى عن مجاوزة الحد في البسط أو القبض فقال : 
ولا تسرفوا وهذا النهي يتضمن أفراد الإسراف ، فيدخل فيه 
الإسراف في أكل الثمرة حتى لا يبقى شيء منها للزكاة ، 
والإسراف في الصدقة حتى لا يبقي لنفسه ولا لعياله شيئا ،  
[ ص: 293 ] ويؤيده 
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ولا تبسطها كل البسط ثم علله بقوله : 
إنه لا يحب المسرفين أي : لا يعاملهم معاملة المحب فلا يكرمهم ، وقيل 
لحاتم الطائي   : لا خير في السرف فقال : ولا سرف في الخير .