صفحة جزء
آ. (4) قوله تعالى: والذين يؤمنون : "الذين" عطف على "الذين" قبلها، ثم لك اعتباران:

أن يكون من باب عطف بعض الصفات على بعض كقوله:


121 - إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم



وقوله:


122 - يا ويح زيابة للحارث ال     صابح فالغانم فالآئب



يعني: أنهم جامعون بين هذه الأوصاف إن قيل إن المراد بهما واحد.

[ ص: 98 ] والثاني: أن يكونوا غيرهم.

وعلى كلا القولين فيحكم على موضعه بما حكم على موضع "الذين" المتقدمة من الإعراب رفعا ونصبا وجرا، قطعا واتباعا، كما مر تفصيله، ويجوز أن يكون عطفا على "المتقين"، وأن يكون مبتدأ خبره "أولئك" وما بعدها إن قيل إنهم غير "الذين" الأولى، و"يؤمنون" صلة وعائد.

و"بما أنزل" متعلق به و"ما" موصولة اسمية، و"أنزل" صلتها وهو فعل مبني للمفعول، والعائد هو الضمير القائم مقام الفاعل، ويضعف أن يكون نكرة موصوفة، وقد منع أبو البقاء من ذلك، قال: "لأن النكرة الموصوفة لا عموم فيها، ولا يكمل الإيمان إلا بجميع ما أنزل".

و"إليك" متعلق بـ "أنزل"، ومعنى "إلى" انتهاء الغاية، ولها معان أخر: المصاحبة: ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم والتبيين: رب السجن أحب إلي وموافقة اللام وفي ومن: والأمر إليك أي لك: وقال النابغة:


123 - فلا تتركني بالوعيد كأنني     إلى الناس مطلي به القار أجرب



أي في الناس، وقال الآخر:

[ ص: 99 ]

124 - ... ... ... ...     أيسقى فلا يروى إلي ابن أحمرا



أي: لا يروى مني، وقد تزاد، قرئ: "تهوى إليهم" بفتح الواو.

والكاف في محل جر، وهي ضمير المخاطب، ويتصل بها ما يدل على التثنية والجمع تذكيرا وتأنيثا كتاء المخاطب.

والنزول: الوصول والحلول من غير اشتراط علو، قال تعالى: فإذا نزل بساحتهم أي حل ووصل، و"ما" الثانية وصلتها عطف على "ما" الأولى قبلها، فالكلام عليها وعلى صلتها كالكلام على "ما" التي قبلها، فليتأمل.

و"من قبلك" متعلق بـ "أنزل"، و"من" لابتداء الغاية، و"قبل" ظرف زمان يقتضي التقدم، وهو نقيض "بعد"، وكلاهما متى نكر أو أضيف أعرب، ومتى قطع من الإضافة لفظا وأريدت معنى بني على الضم، فمن الإعراب قوله:


125 - فساغ لي الشراب وكنت قبلا     أكاد أغص بالماء القراح



وقال آخر:


126 - ونحن قتلنا الأسد أسد خفية     فما شربوا بعدا على لذة خمرا



ومن البناء قوله تعالى: لله الأمر من قبل ومن بعد وزعم بعضهم أن "قبل" في الأصل وصف ناب عن موصوفه لزوما، فإذا قلت: "قمت قبل [ ص: 100 ] زيد" فالتقدير: قمت زمانا قبل زمان قيام زيد، فحذف هذا كله وناب عنه "قبل زيد" وفيه نظر لا يخفى على متأمله.

واعلم أن حكم (فوق وتحت وعلى وأول) حكم (قبل وبعد) فيما تقدم، وقرئ: " بما أنزل إليك " مبنيا للفاعل وهو الله تعالى أو جبريل، وقرئ أيضا: أنزل ليك بتشديد اللام، وتوجيهه أن يكون سكن آخر الفعل كما سكنه الآخر في قوله:


127 - إنما شعري ملح     قد خلط بجلجلان



بتسكين "خلط" ثم حذف همزة "إليك"، فالتقى مثلان فأدغم.

و"بالآخرة" متعلق بـ(يوقنون)، و"يوقنون" خبر عن "هم" وقدم المجرور للاهتمام به كما قدم المنفق في قوله: ومما رزقناهم ينفقون لذلك، وهذه جملة اسمية عطفت على الجملة الفعلية قبلها فهي صلة أيضا، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر بخلاف: ومما رزقناهم ينفقون لأن وصفهم بالإيقان بالآخرة أوقع من وصفهم بالإنفاق من الرزق فناسب التأكيد بمجيء الجملة الاسمية، أو لئلا يتكرر اللفظ لو قيل: ومما رزقناهم هم ينفقون.

والإيقان: تحقيق الشيء لوضوحه وسكونه يقال: يقن الماء إذا سكن فظهر ما تحته، ويقنت الأمر بكسر القاف، ويوقنون من أيقن بمعنى استيقن، وقد تقدم أن أفعل تأتي بمعنى استفعل.

والآخرة: تأنيث آخر المقابل لـ(أول)، وهي صفة في الأصل جرت مجرى [ ص: 101 ] الأسماء، والتقدير: الدار الآخرة أو النشأة الآخرة، وقد صرح بهذين الموصوفين، قال تعالى: وللدار الآخرة خير وقال: ثم الله ينشئ النشأة الآخرة وقرئ (يؤقنون) بهمز الواو، كأنهم جعلوا ضمة الياء على الواو؛ لأن حركة الحرف بين يديه، والواو المضمومة يطرد قلبها همزة بشروط:

منها ألا تكون الحركة عارضة، وألا يمكن تخفيفها، وألا يكون مدغما فيها، وألا تكون زائدة، على خلاف في هذا الأخير، وسيأتي أمثلة ذلك في سورة (آل عمران) على قوله: ولا تلوون على أحد فأجروا الواو الساكنة المضموم ما قبلها مجرى المضمومة نفسها لما ذكرت لك، ومثل هذه القراءة قراءة قنبل "بالسؤق"، و"على سؤقه"، وقال الشاعر:


128 - أحب المؤقدين إلي موسى     وجعدة إذ أضاءهما الوقود



بهمز "المؤقدين"، وجاء بالأفعال الخمسة بصيغة المضارع دلالة على التجدد والحدوث، وأنهم كل وقت يفعلون ذلك.

وجاء بـ(أنزل) ماضيا - وإن كان إيمانهم قبل تمام نزوله - تغليبا للحاضر المنزل على ما لم ينزل؛ لأنه لا بد من وقوعه فكأنه نزل، فهو من باب قوله: أتى أمر الله بل أقرب منه لنزول بعضه.

[ ص: 102 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية