صفحة جزء
آ . (5) قوله تعالى : الأشهر : يجوز أن تكون الألف واللام للعهد ، والمراد بهذه الأشهر الأشهر المتقدمة في قوله : ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ، والعرب إذا ذكرت نكرة ، ثم أرادت ذكرها ثانيا ، أتت بمضمره أو بلفظه معرفا بأل ، ولا يجوز أن نصفه حينئذ بصفة تشعر بالمغايرة ، فلو قيل : " رأيت رجلا فأكرمت الرجل الطويل " لم ترد بالثاني الأول ، وإن وصفته [ ص: 11 ] بما لا يقتضي المغايرة جاز كقولك : " فأكرمت الرجل المذكور " ، ومنه هذه الآية فإن الأشهر قد وصفت بالحرم ، وهي صفة مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة . ويجوز أن يراد بها غير الأشهر المتقدمة فلا تكون أل للعهد ، والوجهان مقولان في التفسير .

والانسلاخ هنا من أحسن الاستعارات ، وقد بين ذلك أبو الهيثم فقال : " يقال : " أهللنا شهر كذا " أي : دخلنا فيه ، فنحن نزداد كل ليلة منه إلى مضي نصفه لباسا ، ثم نسلخه عن أنفسنا جزءا فجزءا إلى أن ينقضي وينسلخ ، وأنشد :


2448 - إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي



قوله : كل مرصد في انتصابه وجهان أحدهما : أنه منصوب على الظرف المكاني . قال الزجاج : " نحو : ذهبت مذهبا " . وقد رد الفارسي عليه هذا القول من حيث إنه ظرف مكان مختص ، والمكان المختص لا يصل إليه الفعل بنفسه بل بواسطة " في " ، نحو : صليت في الطريق ، وفي البيت ، ولا يصل بنفسه إلا في ألفاظ محصورة بعضها ينقاس وبعضها يسمع ، وجعل هذا نظير ما فعل سيبويه في بيت ساعدة :


2449 - لدن بهز الكف يعسل متنه     فيه كما عسل الطريق الثعلب



وهو أنه جعله مما حذف فيه الحرف اتساعا لا على الظرف ؛ لأنه ظرف مكان مختص .

[ ص: 12 ] قال الشيخ " إنه ينتصب على الظرف ؛ لأن معنى " واقعدوا " لا يراد به حقيقة القعود ، وإنما يراد : ارصدوهم ، وإذا كان كذلك فقد اتفق العامل والظرف في المادة ، ومتى اتفقا في المادة لفظا أو معنى وصل إليه بنفسه تقول : جلست مجلس القاضي ، وقعدت مجلس القاضي ، والآية من هذا القبيل " .

والثاني : أنه منصوب على إسقاط حرف الجر وهو " على " أي : على كل مرصد ، وهذا قول الأخفش ، وجعله مثل قول الآخر :


2450 - تحن فتبدي ما بها من صبابة     وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني



وهذا لا ينقاس بل يقتصر فيه على السماع كقوله تعالى : لأقعدن لهم صراطك أي : على صراطك ، اتفق الكل على أنه على تقدير " على " . وقال بعضهم : هو على تقدير الباء أي بكل مرصد ، نقله أبو البقاء : وحينئذ تكون الباء بمعنى " في " فينبغي أن تقدر " في " لأن المعنى عليها ، وجعله نظير قول الشاعر :


2451 - نغالي اللحم للأضياف نيئا     ونرخصه إذا نضج القدور



والمرصد مفعل من رصده يرصده أي : رقبه يرقبه وهو يصلح للزمان والمكان والمصدر ، قال عامر بن الطفيل : [ ص: 13 ]


2452 - ولقد علمت وما إخالك ناسيا     أن المنية للفتى بالمرصد



والمرصاد : المكان المختص بالترصد ، والمرصد يقع على الراصد سواء كان مفردا أم مثنى أم مجموعا ، وكذلك يقع على المرصود ، وقوله تعالى : فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا يحتمل كل ذلك ، وكأنه في الأصل مصدر ، فلذلك التزم فيه الإفراد والتذكير .

التالي السابق


الخدمات العلمية