صفحة جزء
آ . (8) قوله تعالى : كيف وإن يظهروا : المستفهم عنه محذوف لدلالة المعنى عليه . فقدره أبو البقاء : " كيف تطمئنون أو : كيف يكون لهم عهد " . وقدره غيره : كيف لا تقاتلونهم . والتقدير الثاني من تقديري أبي البقاء أحسن ، لأنه من جنس ما تقدم ، فالدلالة عليه أقوى ، وقد جاء الحذف في هذا التركيب كثيرا ، وتقدم منه قوله تعالى : فكيف إذا جمعناهم فكيف إذا جئنا ، وقال الشاعر :


2456 - وخبرتماني أنما الموت بالقرى فكيف وهاتا هضبة وكثيب



أي : كيف مات ؟ ، وقال الحطيئة : [ ص: 17 ]

2457 - فكيف ولم أعلمهم خذلوكم     على معظم ولا أديمكم قدوا



أي : كيف تلومني في مدحهم ؟ قال الشيخ : " وقدر أبو البقاء الفعل بعد " كيف " بقوله : " كيف تطمئنون " ، وقدره غيره بكيف لا تقاتلونهم " . قلت : ولم يقدره أبو البقاء بهذا وحده ، بل به وبالوجه المختار كما قدمته عنه .

قوله : وإن يظهروا هذه الجملة الشرطية في محل نصب على الحال أي : كيف يكون لهم عهد وهم على حالة تنافي ذلك ؟ وقد تقدم تحقيق هذا عند قوله : وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه . و " لا يرقبوا " جواب الشرط . وقرأ زيد بن علي : " وإن يظهروا " ببنائه للمفعول ، من أظهره عليه أي : جعله غالبا له .

قوله : إلا مفعول به بـ " يرقبوا " أي : لا يحفظوا . وفي " الإل " أقوال لأهل اللغة أحدها : أن المراد به العهد ، قاله أبو عبيدة وابن زيد والسدي ، ومنه قول الشاعر :


2458 - لولا بنو مالك والإل مرقبة     ومالك فيهم الآلاء والشرف



أي : الحلف . وقال آخر :


2459 - وجدناهما كاذبا إلهم     وذو الإل والعهد لا يكذب



[ ص: 18 ] وقال آخر :


2460 - أفسد الناس خلوف خلفوا     قطعوا الإل وأعراق الرحم



وفي حديث أم زرع : " بيت أبي زرع وفي الإل ، كريم الخل ، برود الظل " أي : وفي العهد .

الثاني : أن المراد به القرابة ، وبه قال الفراء ، وأنشد لحسان رضي الله عنه :


2461 - لعمرك إن إلك من قريش     كإل السقب من رأل النعام



وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله :


2462 - ... ... ... ...     قطعوا الإل وأعراق الرحم



الثالث : أن المراد به الله تعالى أي : هو اسم من أسمائه ، واستدلوا على ذلك بحديث أبي بكر لما عرض عليه كلام مسيلمة - لعنه الله- : " إن هذا الكلام لم يخرج من إل " أي : الله عز وجل . ولم يرتض هذا الزجاج قال : " لأن أسماءه تعالى معروفة في الكتاب والسنة ، ولم يسمع أحد يقول : يا إل افعل لي كذا .

[ ص: 19 ] الرابع : أن الإل الجؤار ، وهو رفع الصوت عند التحالف ، وذلك أنهم كانوا إذا تماسحوا وتحالفوا جأروا بذلك جؤارا ، ومنه قول أبي جهل :


2463 - لإل علينا واجب لا نضيعه     متين قواه غير منتكث الحبل



الخامس : أنه من " أل البرق " أي : لمع . قال الأزهري : " الأليل : البريق ، يقال : أل يؤل أي : صفا ولمع " . وقيل : الإل من التحديد ومنه " الألة " الحربة وذلك لحدتها . وقد جعل بعضهم بين هذه المعاني قدرا مشتركا يرجع إليه جميع ما ذكرته لك ، فقال الزجاج : " حقيقة الإل عندي على ما توحيه اللغة التحديد للشيء ، فمن ذلك : الألة : الحربة ، وأذن مؤللة ، فالإل يخرج في جميع ما فسر من العهد والقرابة والجؤار من هذا ، فإذا قلت في العهد : " بينهما إل " فتأويله أنهما قد حددا في أخذ العهود ، وكذلك في الجؤار والقرابة . وقال الراغب : " الإل : كل حالة ظاهرة من عهد وحلف وقرابة تئل أي : تلمع ، وأل الفرس : أسرع ، والألة : الحربة اللامعة " ، وأنشد غيره على ذلك قول حماس بن قيس يوم فتح مكة :


2464 - إن يقبلوا اليوم فما لي علة     هذا سلاح كامل وألة
وذو غرارين سريع السلة      ... ... ... ...

قال : " وقيل : الإل والإيل اسمان لله تعالى ، وليس ذلك بصحيح ، والأللان صفحتا السكين " انتهى . ويجمع الإل في القلة آل ، والأصل : أألل بزنة أفلس ، فأبدلت الهمزة الثانية ألفا لسكونها بعد أخرى مفتوحة ، وأدغمت اللام في [ ص: 20 ] اللام . وفي الكثرة على إلال كذئب وذئاب . والأل- بالفتح- قيل : شدة القنوط . قال الهروي في الحديث : " عجب ربكم من ألكم وقنوطكم " قال أبو عبيد : " المحدثون يقولونه بكسر الهمزة ، والمحفوظ عندنا فتحها ، وهو أشبه بالمصادر ، كأنه أراد من شدة قنوطكم ، ويجوز أن يكون من رفع الصوت ، يقال : أل يؤل ألا وأللا وأليلا إذا رفع صوته بالبكاء ، ومنه يقال : له الويل والأليل ، ومنه قول الكميت :


2465 - وأنت ما أنت في غبراء مظلمة     إذا دعت ألليها الكاعب الفضل



انتهى . وقرأت فرقة : " ألا " بالفتح ، وهو على ما ذكر من كونه مصدرا من أل يؤل إذا عاهد . وقرأ عكرمة : " إيلا " بكسر الهمزة ، بعدها ياء ساكنة ، وفيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه اسم الله تعالى ، ويؤيد ذلك ما تقدم ذلك في جبريل وإسرائيل أن المعنى عبد الله . والثاني : أنه يجوز أن يكون مشتقا من آل يؤول إذا صار إلى آخر الأمر ، أو من آل يؤول إذا ساس قاله ابن جني أي : لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة . وعلى التقديرين سكنت الواو بعد كسرة فقلبت ياء كريح . الثالث : أنه هو الإل المضعف ، وإنما استثقل التضعيف فأبدل إحداهما حرف علة كقولهم : أمليت الكتاب وأمللته . قال : الشاعر : [ ص: 21 ]

2466 - يا ليتما أمنا شالت نعامتها     أيما إلى جنة أيما إلى نار



قوله : ولا ذمة الذمة : قيل العهد ، فيكون مما كرر لاختلاف لفظه إذا قلنا : إن الإل العهد أيضا ، فهو كقوله تعالى :

صلوات من ربهم ورحمة .

وقوله :


2467 - ... ... ... ...     وألفى قولها كذبا ومينا

وقوله :


2468 - ... ... ... ...     وهند أتى من دونها النأي والبعد

وقيل : الذمة : الضمان ، يقال : هو في ذمتي أي : في ضماني وبه سمي أهل الذمة لدخولهم في ضمان المسلمين ، ويقال : " له علي ذمة وذمام ومذمة ، وهي الذم " . قال ذلك ابن عرفة ، وأنشد لأسامة بن الحرث :


2469 - يصيح بالأسحار في كل صارة     كما ناشد الذم الكفيل المعاهد

وقال الراغب : " الذمام : ما يذم الرجل على إضاعته من عهد ، وكذلك الذمة والمذمة والمذمة " - يعني بالفتح والكسر- وقيل : لي مذمة [ ص: 22 ] فلا تهتكها . وقال غيره : " سميت ذمة لأن كل حرمة يلزمك من تضييعها الذم يقال لها ذمة " ، وتجمع على ذم كقوله :


2470 - ... ... ... ...     كما ناشد الذم ... ... ... ...

وعلى ذمم وذمام . وقال أبو زيد : " مذمة بالكسر من الذمام وبالفتح من الذم " . وقال الأزهري : " الذمة : الأمان " ، وفي الحديث : " ويسعى بذمتهم أدناهم " ، قال أبو عبيد : " الذمة الأمان ههنا ، يقول : إذا أعطى أدنى الناس أمانا لكافر نفذ عليهم ، ولذلك أجاز عمر رضي الله عنه أمان عبد على جميع العسكر " . وقال الأصمعي : " الذمة : ما لزم أن يحفظ ويحمى " .

قوله : يرضونكم فيه وجهان ، أحدهما : أنه مستأنف ، وهذا هو الظاهر ، أخبر أن حالهم كذلك . والثاني : أنها في محل نصب على الحال من فاعل " لا يرقبوا " ، قال أبو البقاء : " وليس بشيء لأنهم بعد ظهورهم لا يرضون المؤمنين " .

قوله : وتأبى يقال : أبى يأبى إبى أي : اشتد امتناعه : فكل إباء امتناع من غير عكس قال :


2471 - أبى الله إلا عدله ووفاءه     فلا النكر معروف ولا العرف ضائع



وقال آخر : [ ص: 23 ]


2472 - أبى الضيم والنعمان يحرق نابه     عليه فأفضى والسيوف معاقله



فليس من فسره بمطلق الامتناع بمصيب . ومجيء المضارع منه على يفعل بفتح العين شاذ ، ومثله قلى يقلى في لغة .

التالي السابق


الخدمات العلمية