صفحة جزء
آ . (117) قوله تعالى : اتبعوه : يجوز فيه وجهان أحدهما : أنه اتباع حقيقي ، ويكون عليه السلام خرج أولا وتبعه أصحابه ، وأن يكون مجازا ، أي : اتبعوا أمره ونهيه ، وساعة العسرة عبارة عن وقت الخروج إلى الغزو ، وليس المراد حقيقة الساعة بل كقولهم : يوم الكلاب ، وعشية قارعنا جذام ، فاستعيرت الساعة لذلك كما استعير الغداة والعشية في قوله :


2549 - غداة طفت علماء بكر بن وائل ... ... ... ...



[وقوله] :


2550 - ... ... ... ...     عشية قارعنا جذام وحميرا



[وقوله] :


2551 - إذا جاء يوما وارثي يبتغي الغنى      ... ... ... ...



[ ص: 133 ] قوله : كاد يزيغ ، قرأ حمزة وحفص عن عاصم " يزيغ " بالياء من تحت ، والباقون بالتاء من فوق . فالقراءة الأولى تحتمل أن يكون اسم " كاد " ضمير الشأن ، و " قلوب " مرفوع بيزيغ ، والجملة في محل نصب خبرا لها ، وأن يكون اسمها ضمير القوم ، أو الجمع الذي دل عليه ذكر المهاجرين والأنصار ، ولذلك قدره أبو البقاء وابن عطية : " من بعد كاد القوم " ، وقال الشيخ في هذه القراءة : " فيتعين أن يكون في " كاد " ضمير الشأن وارتفاع " قلوب " بيزيغ لامتناع أن يكون " قلوب " اسم كاد ، و " يزيغ " في موضع الخبر ، لأن النية به التأخير ، ولا يجوز : من بعد كاد قلوب يزيغ بالياء " . قلت : لا يتعين ما ذكر في هذه القراءة لما تقدم لك من أنه يجوز أن يكون اسم كاد ضميرا عائدا على الجمع أو القوم ، والجملة الفعلية خبرها ، ولا محذور يمنع من ذلك . وقوله : " لامتناع أن يكون " قلوب " اسم كاد " ، يعني أنا لو جعلنا " قلوب " اسم " كاد " لزم أن يكون " يزيغ " خبرا مقدما فيلزم أن يرفع ضميرا عائدا على " قلوب " ، ولو كان كذلك للزم تأنيث الفعل لأنه حينئذ مسند إلى ضمير مؤنث مجازي ؛ لأن جمع التكسير يجري مجرى المؤنثة مجازا .

وأما قراءة التاء من فوق فتحتمل أن يكون في " كاد " ، ضمير الشأن ، كما تقدم ، و " قلوب " مرفوع بتزيغ ، وأنث لتأنيث الجمع ، وأن يكون " قلوب " اسمها ، و " تزيغ " خبر مقدم ولا محذور في ذلك ، لأن الفعل قد أنث . قال [ ص: 134 ] الشيخ : " وعلى كل واحد من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرر في علم النحو من أن خبر أفعال المقاربة لا يكون إلا مضارعا رافعا ضمير اسمها ، فبعضهم أطلق وبعضهم قيد بغير " عسى " من أفعال المقاربة ، ولا يكون سببا ، وذلك بخلاف " كان " فإن خبرها يرفع الضمير والسببي لاسم كان ، فإذا قدرنا فيها ضمير الشأن كانت الجملة في موضع نصب على الخبر ، والمرفوع ليس ضميرا يعود على اسم " كاد " بل ولا سببا له .

وهذا يلزم في قراء التاء أيضا . وأما توسيط الخبر فهو مبني على جواز مثل هذا التركيب في مثل " كان يقوم زيد " وفيه خلاف والصحيح المنع . وأما الوجه الأخير فضعيف جدا من حيث أضمر في " كاد " ضميرا ليس له على من يعود إلا بتوهم ، ومن حيث يكون خبر " كاد " رافعا سببا " .

قلت : كيف يقول : " والصحيح المنع " وهذا التركيب موجود في القرآن [ ص: 135 ] كقوله تعالى : ما كان يصنع فرعون ، و كان يقول سفيهنا ، وفي قول امرئ القيس :


2552 - وإن تك قد ساءتك مني خليقة      ... ... ... ...

فهذا التركيب واقع لا محالة ، وإنما اختلفوا في تقديره : هل من باب تقديم الخبر أم لا ؟ فمن منع لأنه كباب المبتدأ والخبر ، والخبر الصريح متى كان كذلك امتنع تقديمه على المبتدأ لئلا يلتبس بباب الفاعل ، فكذلك بعد نسخه . ومن أجاز فلأمن اللبس .

ثم قال الشيخ : " ويخلص من هذه الإشكالات اعتقاد كون " كاد " زائدة ، ومعناها مراد ، ولا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر ، فتكون مثل " كان " إذا زيدت ، يراد معناها ولا عمل لها ، ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن مسعود " من بعد ما زاغت " ، بإسقاط كاد ، وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى : لم يكد يراها ، مع تأثرها بالعامل وعملها في ما بعدها ، فأحرى أن يدعى زيادتها وهي ليست عاملة ولا معمولة " . قلت : زيادتها أباه الجمهور ، وقال به من البصريين الأخفش ، وجعل منه أكاد أخفيها . وتقدم الكلام على ذلك في أوائل هذا الكتاب .

[ ص: 136 ] وقرأ الأعمش والجحدري " تزيغ " بضم التاء وكأنه جعل " أزاغ " و " زاغ " بمعنى . وقرأ أبي " كادت " بتاء التأنيث .

التالي السابق


الخدمات العلمية