صفحة جزء
[ ص: 249 ] آ . (81) قوله تعالى : ما جئتم به السحر : قرأ أبو عمرو وحده دون باقي السبعة " آلسحر " بهمزة الاستفهام ، وبعدها ألف محضة ، وهي بدل عن همزة الوصل الداخلة على لام التعريف ، ويجوز أن تسهل بين بين ، وقد تقدم تحقيق هذين الوجهين في قوله : ءآلذكرين وهي قراءة مجاهد وأصحابه وأبي جعفر . وقرأ باقي السبعة بهمزة وصل تسقط في الدرج . فأما قراءة أبي عمرو ففيها أوجه ، أحدها : أن " ما " استفهامية في محل رفع بالابتداء ، و " جئتم به " الخبر ، والتقدير : أي شيء جئتم ، كأنه استفهام إنكار وتقليل للشيء المجاء به . و " السحر " بدل من اسم الاستفهام ، ولذلك أعيد معه أداته لما قررته في كتب النحو . الثاني : أن يكون " السحر " مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : أهو السحر . الثالث : أن يكون مبتدأ محذوف الخبر تقديره : السحر هو . ذكر هذين الوجهين أبو البقاء ، وذكر الثاني مكي ، وفيهما بعد . الرابع : أن تكون " ما " موصولة بمعنى الذي ، وجئتم به صلتها ، والموصول في محل رفع بالابتداء ، و " السحر " على وجهيه من كونه خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : الذي جئتم به أهو السحر ، أو الذي جئتم به السحر هو ، وهذا الضمير هو الرابط كقولك : الذي جاءك أزيد هو ، قاله الشيخ .

[ ص: 250 ] قلت : قد منع مكي أن تكون " ما " موصولة على قراءة أبي عمرو فقال : " وقد قرأ أبو عمرو " آلسحر " بالمد ، فعلى هذه القراءة تكون " ما " استفهاما مبتدأ ، و " جئتم به " الخبر ، و " السحر " خبر ابتداء محذوف ، أي : أهو السحر ، ولا يجوز أن تكون " ما " بمعنى الذي على هذه القراءة إذا لا خبر لها " . قلت : ليس كما ذكر ، بل خبرها الجملة المقدر أحد جزأيها ، وكذلك الزمخشري وأبو البقاء لم يجيزا كونها موصولة إلا في قراءة غير أبي عمرو ، لكنهما لم يتعرضا لعدم جوازه .

الخامس : أن تكون " ما " استفهامية في محل نصب بفعل مقدر بعدها لأن لها صدر الكلام ، و " جئتم به " مفسر لذلك الفعل المقدر ، وتكون المسألة حينئذ من باب الاشتغال ، والتقدير : أي شيء أتيتم جئتم به ، و " السحر " على ما تقدم ، ولو قرئ بنصب " السحر " على أنه بدل من " ما " بهذا التقدير لكان له وجه ، لكنه لم يقرأ به فيما علمت ، وسيأتي ما حكاه مكي عن الفراء من جواز نصبه لمدرك آخر على أنها قراءة منقولة [عن الفراء ] .

وأما قراءة الباقين ففيها أوجه أيضا ، أحدها : أن تكون " ما " بمعنى الذي في محل رفع بالابتداء ، و " جئتم به " صلة وعائده ، و " السحر " خبره ، والتقدير : الذي جئتم به السحر ، ويؤيد هذا التقدير قراءة أبي وما في مصحفه : ( ما أتيتم به سحر ) وقراءة عبد الله والأعمش ما جئتم به السحر .

الثاني : أن تكون " ما " استفهامية في محل نصب بإضمار فعل على ما تقرر ، و " السحر " خبر ابتداء مضمر أو مبتدأ مضمر الخبر . الثالث : أن تكون " ما " [ ص: 251 ] في محل رفع بالابتداء ، و " السحر " على ما تقدم من كونه مبتدأ أو خبرا ، والجملة خبر " ما " الاستفهامية . قال الشيخ - بعدما ذكر الوجه الأول - : " ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، أو في موضع نصب على الاشتغال ، وهو استفهام على سبيل التحقير والتقليل لما جاءوا به ، و " السحر " خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو السحر " .

قلت : ظاهر عبارته أنه لم يره غيره ، حيث قال " عندي " ، وهذا قد جوزه أبو البقاء ومكي . قال أبو البقاء : - لما ذكر قراءة غير أبي عمرو - " ويقرأ بلفظ الخبر ، وفيه وجهان " ، ثم قال : " ويجوز أن تكون " ما " استفهاما ، و " السحر " خبر مبتدأ محذوف " . وقال مكي في قراءة غير أبي عمرو بعد ذكره كون " ما " بمعنى الذي : " ويجوز أن تكون " ما " رفعا بالابتداء وهي استفهام ، و " جئتم به " الخبر ، و " السحر " خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو السحر ، ويجوز أن تكون " ما " في موضع نصب على إضمار فعل بعد " ما " تقديره : أي شيء جئتم [به] ، و " السحر " خبر ابتداء محذوف " .

الرابع : أن تكون هذه القراءة كقراءة أبي عمرو في المعنى ، أي : إنها على نية الاستفهام ، ولكن حذفت أداته للعلم بها ، قال أبو البقاء : " ويقرأ بلفظ الخبر ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه استفهام في المعنى أيضا : وحذفت الهمزة للعلم بها " ، وعلى هذا الذي ذكره يكون الإعراب على ما تقدم . واعلم أنك إذا جعلت " ما " موصولة بمعنى الذي امتنع نصبها بفعل مقدر على الاشتغال . قال مكي : " ولا يجوز أن تكون " ما " بمعنى الذي في [ ص: 252 ] موضع نصب لأن ما بعدها صلتها ، والصلة لا تعمل في الموصول ، ولا يكون تفسيرا للعامل في الموصول " ، وهو كلام صحيح ، فتلخص من هذا أنها إذا كانت استفهامية جاز أن تكون في محل رفع أو نصب ، وإذا كانت موصولة تعين أن يكون محلها الرفع بالابتداء .

وقال مكي : " وأجاز الفراء نصب " السحر " ، تجعل " ما " شرطا ، وتنصب " السحر " على المصدر ، وتضمر الفاء مع " إن الله سيبطله " ، وتجعل الألف واللام في " السحر " زائدتين ، وذلك كله بعيد ، وقد أجاز علي ابن سليمان حذف الفاء من جواب الشرط في الكلام ، واستدل على جوازه بقوله تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ، ولم يجزه غيره إلا في ضرورة شعر " . قلت : وإذا مشينا مع الفراء فتكون " ما " شرطا يراد بها المصدر ، تقديره : أي سحر جئتم به فإن الله سيبطله ، ويبين أن " ما " يراد بها السحر قوله : " السحر " ، ولكن يقلق قوله : " إن نصب " السحر " على المصدرية " ، فيكون تأويله أنه منصوب على المصدر الواقع موقع الحال ، ولذلك قدره بالنكرة ، وجعل أل مزيدة فيه .

وقد نقل عن الفراء أن هذه الألف واللام للتعريف ، وهو تعريف العهد ، قال الفراء : " وإنما قال " السحر " بالألف واللام لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت بالألف واللام " ، يعني أن النكرة قد تقدمت في قوله : إن هذا لسحر مبين ، وبهذا شرحه ابن عطية . قال ابن عطية : والتعريف هنا في " [ ص: 253 ] " السحر " أرتب لأنه قد تقدم منكرا في قولهم : " إن هذا لسحر " ، فجاء هنا بلام العهد ، كما يقال أول الرسالة " سلام عليك " . قال الشيخ : " وما ذكراه هنا في " السحر " ليس من تقدم النكرة ، ثم أخبر عنها بعد ذلك ، لأن شرط هذا أن يكون المعرف بأل هو المنكر المتقدم ، ولا يكون غيره ، كقوله تعالى : كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ، وتقول : " زارني رجل فأكرمت الرجل " لما كان إياه جاز أن يؤتى بضميره بدله ، فتقول : فأكرمته ، والسحر هنا ليس هو السحر الذي في قولهم : " إن هذا لسحر " لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحر هو ما ظهر على يدي موسى من معجزة العصا والسحر الذي في قول موسى ، إنما هو سحرهم الذي جاءوا به ، فقد اختلف المدلولان ، إذ قالوا هم عن معجزة موسى ، وقال موسى عما جاءوا به ، ولذلك لا يجوز أن يؤتى هنا بالضمير بدل السحر ، فيكون عائدا على قولهم : " لسحر " .

قلت : والجواب أن الفراء وابن عطية إنما أراد السحر المتقدم الذكر في اللفظ ، وإن كان الثاني هو غير عين الأول في المعنى ، ولكن لما أطلق عليهما لفظ " السحر " جاز أن يقال ذلك ، ويدل على هذا أنهم قالوا في قوله تعالى : والسلام علي : إن الألف واللام للعهد لتقدم ذكر السلام في قوله تعالى : وسلام عليه ، وإن كان السلام الواقع على عيسى هو غير السلام الواقع على يحيى ، لاختصاص كل سلام بصاحبه من حيث اختصاصه به ، وهذا النقل المذكور عن الفراء في الألف واللام ينافي ما نقله عنه مكي فيهما ، [ ص: 254 ] اللهم إلا أن يقال : يحتمل أن يكون له مقالتان ، وليس ببعيد فإنه كلما كثر العلم اتسعت المقالات .

وقوله : المفسدين من وقوع الظاهر موقع ضمير المخاطب إذ الأصل : لا يصلح عملكم ، فأبرزهم في هذه الصفة الذميمة شهادة عليهم بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية