صفحة جزء
آ . (5) قوله تعالى : يثنون : قراءة الجمهور بفتح الياء وسكون الثاء المثلثة ، وهو مضارع ثنى يثني ثنيا ، أي : طوى وزوى ، و " صدورهم " مفعول به والمعنى : " يحرفون صدورهم ووجوههم عن الحق وقبوله " والأصل : يثنيون فأعل بحذف الضمة عن الياء ، ثم تحذف الياء لالتقاء الساكنين .

وقرأ سعيد بن جبير " يثنون " بضم الياء وهو مضارع أثنى كأكرم .

[ ص: 285 ] واستشكل الناس هذه القراءة فقال أبو البقاء : " ماضيه أثنى ، ولا يعرف في اللغة ، إلا أن يقال : معناه عرضوها للانثناء ، كما يقال : أبعت الفرس : إذا عرضته للبيع " . وقال صاحب " اللوامح " : " ولا يعرف الإثناء في هذا الباب ، إلا أن يراد بها : وجدتها مثنية ، مثل : أحمدته وأمجدته ، ولعله فتح النون ، وهذا مما فعل بهم فيكون نصب " صدورهم " بنزع الجار ، ويجوز إلى ذلك أن يكون " صدورهم " رفعا على البدل بدل البعض من الكل " . قلت : يعني بقوله : " فلعله فتح النون " ، أي : ولعل ابن جبير قرأ ذلك بفتح نون " يثنون " فيكون مبنيا للمفعول ، وهو معنى قوله " وهذا مما فعل بهم ، أي : وجدوا كذلك ، فعلى هذا يكون " صدورهم " منصوبا بنزع الخافض ، أي : في صدورهم ، أي : يوجد الثني في صدورهم ، ولذلك جوز رفعه على البدل كقولك : " ضرب زيد الظهر " . ومن جوز تعريف التمييز لا يبعد عنده أن ينتصب " صدورهم " على التمييز بهذا التقدير الذي قدره .

وقرأ ابن عباس وعلي بن الحسين وابناه زيد ومحمد وابنه جعفر ومجاهد وابن يعمر وعبد الرحمن بن أبزى وأبو الأسود : " تثنونى " مضارع " اثنونى " على وزن افعوعل من الثني كاحلولى من الحلاوة وهو بناء مبالغة ، " صدورهم " بالرفع على الفاعلية ، ونقل عن ابن عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق : " يثنونى صدورهم " بالتاء والياء ، لأن التأنيث مجازي ، فجاز تذكير الفعل باعتبار تأول فاعله بالجمع ، وتأنيثه باعتبار تأويل فاعله بالجماعة .

[ ص: 286 ] وقرأ ابن عباس أيضا وعروة وابن أبزى والأعشى " تثنون " بفتح التاء وسكون الثاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة والأصل : تثنونن بوزن تفعوعل وهو الثن وهو ما هش وضعف من الكلأ ، يريد مطاوعة نفوسهم للثني كما يثنى الهش من النبات ، أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم . و " صدورهم " بالرفع على الفاعلية .

وقرأ مجاهد وعروة أيضا كذلك ، إلا أنهما جعلا مكان الواو المكسورة همزة مكسورة فأخرجاها مثل " تطمئن " . وفيها تخريجان ، أحدهما : أن الواو قلبت همزة لاستثقال الكسرة عليها ، ومثله إعاء وإشاح في وعاء ووشاح ، لما استثقلوا الكسرة على الواو أبدلوها همزة .

والثاني : أن وزنه تفعيل من الثن وهو ما ضعف من النبات كما تقدم ، وذلك أنه مضارع لـ " اثنان " مثل احمار واصفار ، وقد تقدم لك أن من العرب من يقلب مثل هذه الألف همزة كقوله :


2635 - ... ... ... ... ... ... ... ... بالعبيط ادهأمت

فجاء مضارع اثنأن على ذلك كقولك : احمأر يحمئر كاطمأن يطمئن . وأما " صدورهم " فبالرفع على ما تقدم .

وقرأ الأعشى أيضا " تثنؤون " بفتح التاء وسكون المثلثة وفتح النون [ ص: 287 ] وهمزة مضمومة وواو ساكنة بزنة تفعلون كترهبون . " صدورهم " بالنصب . قال صاحب " اللوامح " ولا أعرف وجهه لأنه يقال " ثنيت " ولم أسمع " ثنأت " ، ويجوز أنه قلب الياء ألفا على لغة من يقول " أعطات " في أعطيت ، ثم همز الألف على لغة من يقول ( ولا الضألين ) .

وقرأ ابن عباس أيضا " تثنوي " بفتح التاء وسكون المثلثة وفتح النون وكسر الواو بعدها ياء ساكنة بزنة ترعوي وهي قراءة مشكلة جدا حتى قال أبو حاتم : " وهذه القراءة غلط لا تتجه " وإنما قال : إنها غلط ؛ لأنه لا معنى للواو في هذا الفعل إذ لا يقال : " ثنوته فانثوى كرعوته ، أي : كففته فارعوى ، أي : فانكف ووزنه افعل كاحمر .

وقرأ نصر بن عاصم وابن يعمر وابن أبي إسحاق " يثنون " بتقديم النون الساكنة على المثلثة .

وقرأ ابن عباس أيضا " لتثنون " بلام التأكيد في خبر " إن " وفتح التاء وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نون مكسورة وهي بزنة تفعوعل ، كما تقدم ، إلا أنها حذفت التاء التي هي لام الفعل تخفيفا كقولهم : لا أدر وما أدر . و " صدورهم " فاعل كما تقدم .

وقرأت طائفة : " تثنؤن " بفتح التاء ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نون مفتوحة ثم همزة مضمومة ثم نون مشددة ، مثل تقرؤن ، وهو من ثنيت ، إلا أنه قلب الياء واوا لأن الضمة تنافرها ، فجعلت الحركة على مجانسها ، فصار [ ص: 288 ] اللفظ تثنوون ثم قلبت الواو المضمومة همزة كقولهم : " أجوه " في " وجوه " و " أقتت " في " وقتت " فصار " تثنؤون " ، فلما أكد الفعل بنون التوكيد حذفت نون الرفع فالتقى ساكنان : وهما واو الضمير والنون الأولى من نون التوكيد ، فحذفت الواو وبقيت الضمة تدل عليها فصار تثنؤن كما ترى . و " صدورهم " منصوب مفعولا به فهذه إحدى عشرة قراءة بالغت في ضبطها باللفظ وإيضاح تصريفها ؛ لأني رأيتها في الكتب مهملة من الضبط باللفظ وغالب التصريف ، وكأنهم اتكلوا في ذلك على الضبط بالشكل في الكتابة وهذا متعب جدا .

قوله ليستخفوا فيه وجهان ، أحدهما : أن هذه اللام متعلقة بـ " يثنون " وكذا قاله الحوفي ، والمعنى أنهم يفعلون ثني الصدور لهذه العلة .

وهذا المعنى منقول في التفسير ولا كلفة فيه . والثاني : أن اللام متعلقة بمحذوف ، قال الزمخشري : " ليستخفوا منه " يعني ويريدون : ليستخفوا من الله فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم ، ونظير إضمار " يريدون " لعود المعنى إلى إضماره الإضمار في قوله تعالى : أن اضرب بعصاك البحر فانفلق " معناه : " فضرب فانفلق " قلت : ليس المعنى الذي يقودنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا ؛ لأن ثم لا بد من حذف معطوف يضطر العقل إلى تقديره ؛ لأنه ليس من لازم الأمر بالضرب انفلاق البحر فلا بد أن يتعقل " فضرب فانفلق " ، وأما في هذه فالاستخفاف علة صالحة لتثنيهم صدورهم فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإرادة .

والضمير في " منه " فيه وجهان ، أحدهما : أنه عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر على تعلق اللام بـ " يثنون " . والثاني : أنه عائد على الله تعالى كما قال الزمخشري .

[ ص: 289 ] قوله : ألا حين يستغشون في هذا الظرف وجهان ، أحدهما : أن ناصبه مضمر ، فقدره الزمخشري بـ " يريدون " كما تقدم ، فقال : " ومعنى ألا حين يستغشون ثيابهم : ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضا كراهة لاستماع كلام الله كقول نوح عليه السلام جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ، وقدره أبو البقاء فقال : " ألا حين يستغشون ثيابهم يستخفون " . والثاني : أن الناصب له " يعلم " ، أي : ألا يعلم سرهم وعلنهم حين يفعلون كذا ، وهو معنى واضح ، وكأنهم إنما جوزوا غيره لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرهم وعلنهم بهذا الوقت الخاص ، وهو تعالى عالم بذلك في كل وقت . وهذا غير لازم ، لأنه إذا علم سرهم وعلنهم في وقت التغشية الذي يخفى فيه السر فأولى في غيره ، وهذا بحسب العادة وإلا فالله تعالى لا يتفاوت علمه . و " ما " يجوز أن تكون " مصدرية " ، وأن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : تسرونه وتعلنونه .

التالي السابق


الخدمات العلمية