صفحة جزء
آ . (27) قوله تعالى : وما نراك : يجوز أن تكون قلبية ، وأن تكون بصرية . فعلى الأول تكون الجملة من قوله " اتبعك " في محل نصب مفعولا [ ص: 310 ] ثانيا ، وعلى الثاني في محل نصب على الحال ، و " قد " مقدرة عند من يشترط ذلك .

والأراذل فيه وجهان ، أحدهما : أنه جمع الجمع ، والثاني : جمع فقط . والقائلون بالأول اختلفوا فقيل : جمع لـ " أرذل " ، وأرذل جمع لرذل نحو : كلب وأكلب وأكالب . وقيل : بل جمع لأرذال ، وأرذال جمع لرذل أيضا . والقائلون بأنه ليس جمع جمع ، بل جمع فقط قالوا : هو جمع لأرذل ، وإنما جاز أن يكون جمعا لأرذل لجريانه مجرى الأسماء من حيث إنه هجر موصوفه كالأبطح والأبرق وقال بعضهم : هو جمع أرذل الذي للتفضيل ، وجاء جمعا كما جاء أكابر مجرميها و ( أحاسنكم أخلاقا ) . ويقال : رجل رذل ورذال ، كـ " رخل " و " رخال " وهو المرغوب عنه لرداءته .

قوله : بادي الرأي قرأ أبو عمرو من السبعة وعيسى الثقفي " بادئ " بالهمز ، والباقون بياء صريحة مكان الهمزة . فأما الهمز فمعناه : بادئ الرأي ، أي : أول الرأي بمعنى أنه غير صادر عن روية وتأمل ، بل من أول وهلة . وأما من لم يهمز فيحتمل أن يكون أصله كما تقدم ، ويحتمل أن يكون من بدا يبدو أي ظهر ، والمعنى : ظاهر الرأي دون باطنه ، أي : لو تؤمل لعرف باطنه ، وهو في المعنى كالأول .

وفي انتصابه على كلتا القراءتين سبعة أوجه ، أحدها : أنه منصوب على الظرف ، وفي العامل فيه على هذا ثلاثة أوجه ، أحدها : " نراك " ، أي : [ ص: 311 ] وما نراك في أول رأينا ، على قراءة أبي عمرو ، أو فيما يظهر لنا من الرأي في قراءة الباقين . والثاني من الأوجه الثلاثة : أن يكون منصوبا بـ " اتبعك " ، أي : ما نراك اتبعك أول رأيهم ، أو ظاهر رأيهم ، وهذا يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يريدوا اتبعوك في ظاهر أمرهم ، وبواطنهم ليست معك . والثاني : أنهم اتبعوك بأول نظر ، وبالرأي البادي دون تثبت ، ولو تثبتوا لما اتبعوك . الثالث من الأوجه الثلاثة : أن العامل فيه " أراذلنا " والمعنى : أراذلنا بأول نظر منهم ، أو بظاهر الرأي نعلم ذلك ، أي : إن رذالتهم مكشوفة ظاهرة لكونهم أصحاب حرف دنية .

ثم القول بكون " بادي " ظرفا يحتاج إلى اعتذار فإنه اسم فاعل وليس بظرف في الأصل ، فقال مكي : " وإنما جاز أن يكون فاعل ظرفا كما جاز ذلك في فعيل نحو : قريب ومليء ، وفاعل وفعيل يتعاقبان كراحم ورحيم ، وعالم وعليم ، وحسن ذلك في فاعل لإضافته إلى الرأي ، والرأي يضاف إليه المصدر ، وينتصب المصدر معه على الظرف نحو : " أما جهد رأي فإنك منطلق " ، أي : في " جهد " .

وقال الزمخشري : " وانتصابه على الظرف ، أصله : وقت حدوث أول أمرهم ، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم ، فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه " .

الوجه الثاني من السبعة : أن ينتصب على المفعول به ، حذف معه حرف الجر مثل واختار موسى قومه كذا قاله مكي . وفيه نظر من حيث إنه ليس هنا فعل صالح للتعدي إلى اثنين ، إلى ثانيهما بإسقاط الخافض .

الثالث من السبعة : أن ينتصب على المصدر ، ومجيء المصدر على [ ص: 312 ] فاعل أيضا ليس بالقياس ، والعامل في هذا المصدر كالعامل في الظرف كما تقدم ، ويكون من باب ما جاء فيه المصدر من معنى الفعل لا من لفظه ، تقديره : رؤية بدء أو ظهور ، أو اتباع بدء أو ظهور ، أو رذالة بدء أو ظهور .

الرابع من السبعة : أن يكون نعتا لبشر ، أي : ما نراك إلا بشرا مثلنا بادي الرأي ، أي : ظاهره ، أو مبتدئا فيه . وفيه بعد للفصل بين النعت والمنعوت بالجملة المعطوفة . الخامس : أنه حال من مفعول " اتبعك " ، أي : وأنت مكشوف الرأي ظاهر لا قوة فيه ولا حصافة لك . السادس : أنه منادى والمراد به نوح عليه السلام ، كأنهم قالوا : يا بادي الرأي ، أي : ما في نفسك ظاهر لكل أحد ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به والاستقلال له . السابع : أن العامل فيه مضمر ، تقديره : أتقول ذلك بادي الرأي ، ذكره أبو البقاء ، والأصل عدم الإضمار مع الاستغناء عنه ، وعلى هذه الأوجه الأربعة الأخيرة هو اسم فاعل من غير تأويل ، بخلاف ما تقدم من الأوجه فإنه ظرف أو مصدر .

واعلم أنك إذا نصبت " بادي " على الظرف أو المصدر بما قبل " إلا " احتجت إلى جواب عن إشكال وهو أن ما بعد " إلا " لا يكون معمولا لما قبلها ، إلا إن كان مستثنى منه نحو : " ما قام إلا زيدا القوم " أو مستثنى نحو : " قام القوم إلا زيدا " ، أو تابعا للمستثنى منه نحو : " ما جاءني أحد إلا زيد أخير من عمرو " و " بادي الرأي " ليس شيئا من ذلك . وقال مكي : " فلو قلت في [ ص: 313 ] الكلام : " ما أعطيت [أحدا] إلا زيدا درهما] فأوقعت اسمين مفعولين بعد " إلا " لم يجز ؛ لأن الفعل لا يصل بـ " إلا " إلى مفعولين ، إنما يصل إلى اسم واحد كسائر الحروف ، ألا ترى أنك لو قلت : " مررت بزيد عمرو " فأوصلت الفعل إليهما بحرف واحد لم يجز ، ولذلك لو قلت : " استوى الماء والخشبة الحائط " فتنصب اسمين بواو " مع " لم يجز إلا أن تأتي في جميع ذلك بواو العطف فيجوز وصول الفعل " .

والجواب الذي ذكروه هو أن الظروف يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها . وهذا جماع القول في هذه المسألة باختصار .

والرأي : يجوز أن يكون من رؤية العين أو من الفكرة والتأمل . وقوله بينة من ربي " من ربي " نعت لـ " بينة " ، أي : بينة من بينات ربي .

التالي السابق


الخدمات العلمية