صفحة جزء
آ . (81) قوله تعالى : فأسر : قرأ نافع وابن كثير : ( فاسر بأهلك ) هنا وفي الحجر ، وفي الدخان : فأسر بعبادي ، وقوله : أن أسر في طه والشعراء ، جميع ذلك بهمزة الوصل تسقط درجا وتثبت مكسورة ابتداء . والباقون " فأسر " بهمزة القطع تثبت مفتوحة درجا وابتداء ، والقراءتان مأخوذتان من لغتي هذا الفعل فإنه يقال : سرى ، ومنه والليل إذا يسر ، وأسرى ، ومنه : سبحان الذي أسرى وهل هما بمعنى واحد [ ص: 365 ] أو بينهما فرق ؟ خلاف مشهور . فقيل : هما بمعنى واحد ، وهو قول أبي عبيد . وقيل : بل أسرى لأول الليل ، وسرى لآخره ، وهو قول الليث ، وأما سار فمختص بالنهار ، وليس مقلوبا من سرى .

قوله : بأهلك يجوز أن تكون الباء للتعدية ، وأن تكون للحال أي : مصاحبا لهم . وقوله : " بقطع " حال من " أهلك " أي : مصاحبين لقطع ، على أن المراد به الظلمة . وقيل : الباء بمعنى " في " . والقطع هنا نصف الليل ، لأنه قطعة منه مساوية لباقيه ، وأنشدوا :


2696 - ونائحة تنوح بقطع ليل على رجل بقارعة الصعيد

وقد تقدم الكلام على القطع في يونس بأشبع من هذا .

قوله : إلا امرأتك ابن كثير وأبو عمرو برفع " امرأتك " والباقون بنصبها . وفي هذه الآية الكريمة كلام كثير لا بد من استيفائه . أما قراءة الرفع ففيها وجهان ، أشهرهما عند المعربين : أنه على البدل من " أحد " وهو أحسن من النصب ، لأن الكلام غير موجب . وهذا الوجه قد رده أبو عبيد بأنه يلزم منه أنهم نهوا عن الالتفات إلا المرأة ، فإنها لم تنه عنه ، وهذا لا يجوز ، ولو كان الكلام " ولا يلتفت " برفع " يلتفت " يعني على أن تكون " لا " نافية ، فيكون الكلام خبرا عنهم بأنهم لم يلتفتوا إلا امرأته فإنها تلتفت ، لكان الاستثناء بالبدلية واضحا ، لكنه لم يقرأ برفع " يلتفت " أحد .

[ ص: 366 ] وقد استحسن ابن عطية هذا الإلزام من أبي عبيد ، وقال : " إنه وارد على القول باستثناء المرأة من " أحد " سواء رفعت المرأة أو نصبتها " . قلت : وهذا صحيح ، فإن أبا عبيد لم يرد الرفع لخصوص كونه رفعا ، بل لفساد المعنى ، وفساد المعنى دائر مع الاستثناء من " أحد " ، وأبو عبيد يخرج النصب على الاستثناء من " بأهلك " ، ولكنه يلزم من ذلك إبطال قراءة الرفع ، ولا سبيل إلى ذلك لتواترها .

وقد انفصل المبرد عن هذا الإشكال الذي أورده أبو عبيد بأن النهي في اللفظ لـ " أحد " وهو في المعنى للوط عليه السلام ، إذ التقدير : لا تدع منهم أحدا يلتفت ، كقولك لخادمك : " لا يقم أحد " النهي لأحد ، وهو في المعنى للخادم ، إذ المعنى : " لا تدع أحدا يقوم " .

قلت : فآل الجواب إلى أن المعنى : لا تدع أحدا يلتفت إلا امرأتك فدعها تلتفت ، هذا مقتضى الاستثناء كقولك : " لا تدع أحدا يقوم إلا زيدا ، معناه : فدعه يقوم . وفيه نظر ؛ إذ المحذور الذي قد فر منه أبو عبيد موجود هو أو قريب منه هنا .

والثاني : أن الرفع على الاستثناء المنقطع ، والقائل بهذا جعل قراءة النصب أيضا من الاستثناء المنقطع ، فالقراءتان عنده على حد سواء ، ولنسرد كلامه لنعرفه فقال : " الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع ، لم يقصد به إخراجها من المأمور بالإسراء معهم ، ولا من المنهيين عن الالتفات ، ولكن استؤنف الإخبار عنها ، فالمعنى : لكن امرأتك يجري لها كذا وكذا ، ويؤيد هذا المعنى أن مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجر ، وليس فيها استثناء البتة ، قال تعالى : فأسر بأهلك الآية . فلم تقع العناية في ذلك [ ص: 367 ] إلا بذكر من أنجاهم الله تعالى ، فجاء شرح حال امرأته في سورة هود تبعا لا مقصودا بالإخراج مما تقدم ، وإذا اتضح هذا المعنى علم أن القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع ، وفيه النصب والرفع ، فالنصب لغة أهل الحجاز وعليه الأكثر ، والرفع لغة تميم وعليه اثنان من القراء " . قال الشيخ : " وهذا الذي طول به لا تحقيق فيه ، فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات ، وجعل استثناء منقطعا ، كان من المنقطع الذي لم يتوجه عليه العامل بحال ، وهذا النوع يجب فيه النصب على كلتا اللغتين ، وإنما تكون اللغتان في ما جاز توجه العامل عليه ، وفي كلا النوعين يكون ما بعد " إلا " من غير الجنس المستثنى ، فكونه جاز في اللغتان دليل على أنه يمكن أن يتوجه عليه العامل ، وهو قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات ، فكان يجب فيه إذ ذاك النصب قولا واحدا " .

[قلت : القائل بذلك هو الشيخ شهاب الدين أبو شامة] . وأما قوله : " إنه لم يتوجه عليه العامل " ليس بمسلم ، بل يتوجه عليه في الجملة ، والذي قاله النحاة مما لم يتوجه عليه العامل من حيث المعنى نحو : ما زاد إلا ما نقص ، وما نفع إلا ما ضر ، وهذا ليس من ذاك ، فكيف يعترض به على أبي شامة ؟ .

وأما النصب ففيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه مستثنى من " بأهلك " ، واستشكلوا عليه إشكالا من حيث المعنى : وهو أنه يلزم ألا يكون سرى بها ، لكن الفرض أنه سرى بها ، يدل عليه أنها التفتت ، ولو لم تكن معهم لما حسن [ ص: 368 ] الإخبار عنها بالالتفات ، فالالتفات يدل على كونها سرت معهم قطعا .

وقد أجيب عنه بأنه لم يسر هو بها ، ولكن لما سرى هو وبنتاه تبعتهم فالتفتت ، ويؤيد أنه استثناء من الأهل ما قرأ به عبد الله وسقط من مصحفه " فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك " ولم يذكر قوله ولا يلتفت منكم أحد .

والثاني : أنه مستثنى من " أحد " وإن كان الأحسن الرفع إلا أنه جاء كقراءة ابن عامر ما فعلوه إلا قليل منهم بالنصب مع تقدم النفي الصريح . وقد تقدم لك هناك تخريج آخر لا يمكن ههنا .

والثالث : أنه مستثنى منقطع على ما قدمته عن أبي شامة . وقال الزمخشري : " وفي إخراجها مع أهله روايتان ، روي أنه أخرجها معهم ، وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي ، فلما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت : يا قوماه ، فأدركها حجر فقتلها ، وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها فإن هواها إليهم ولم يسر بها ، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين " .

قال الشيخ : " وهذا وهم فاحش ، إذ بنى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنه سرى بها أو لم يسر بها ، وهذا تكاذب في الإخبار ، يستحيل أن تكن القراءتان - وهما من كلام الله تعالى - يترتبان على التكاذب " . قلت : وحاش لله أن تترتب القراءتان على التكاذب ، ولكن ما قاله الزمخشري صحيح ، الفرض أنه قد جاء في التفسير القولان ، ولا يلزم من ذلك التكاذب ، لأن من قال إنه سرى بها يعني أنها سرت هي بنفسها مصاحبة لهم في أوائل الأمر ، ثم أخذها العذاب فانقطع سراها ، ومن قال إنه لم يسر بها ، أي : [ ص: 369 ] لم يأمرها ولم يأخذها وأنه لم يدم سراها معهم بل انقطع فصح أن يقال : إنه سرى بها ولم يسر بها ، وقد أجاب الناس بهذا وهو حسن .

وقال الشيخ أبو شامة : " ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاة معنى حسن ، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبه عليه اختلاف القراءتين فكأنه قيل : فأسر بأهلك إلا امرأتك ، وكذا روى أبو عبيدة وغيره أنها في مصحف عبد الله هكذا ، وليس فيها ولا يلتفت منكم أحد فهذا دليل على استثنائها من السرى بهم ، ثم كأنه قال سبحانه : فإن خرجت معكم وتبعتكم غير أن تكون أنت سريت بها فانه أهلك عن الالتفات غيرها ، فإنها ستلتفت فيصيبها ما أصاب قومها ، فكانت قراءة النصب دالة على المعنى المتقدم ، وقراءة الرفع دالة على المعنى المتأخر ، ومجموعهما دال على جملة المعنى المشروح " وهو كلام حسن شاهد لما ذكرته .

قوله : إنه مصيبها الضمير ضمير الشأن ، و " مصيبها " خبر مقدم ، و " ما أصابهم " مبتدأ مؤخر وهو موصول بمعنى الذي ، والجملة خبر إن ؛ لأن ضمير الشأن يفسر بجملة مصرح بجزأيها .

وأعرب الشيخ " مصيبها " مبتدأ ، و " ما أصابهم " الخبر ، وفيه نظر من حيث الصناعة : فإن الموصول معرفة ، فينبغي أن يكون المبتدأ و " مصيبها " نكرة لأنه عامل تقديرا فإضافته غير محضة ، ومن حيث المعنى : إن المراد الإخبار عن الذي أصابهم أنه مصيبها من غير عكس ، ويجوز عند الكوفيين أن يكون " مصيبها " مبتدأ ، و " ما " الموصولة فاعل لأنهم يجيزون أن يفسر ضمير الشأن بمفرد عامل فيما بعده نحو : " إنه قائم أبواك " .

[ ص: 370 ] قوله : إن موعدهم ، أي : موعد هلاكهم . وقرأ عيسى بن عمر " الصبح " بضمتين فقيل : لغتان ، وقيل : بل هي إتباع ، وقد تقدم البحث في ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية