صفحة جزء
آ . (111) قوله تعالى : وإن كلا لما ليوفينهم : هذه الآية الكريمة [ ص: 397 ] مما تكلم الناس فيها قديما وحديثا ، وعسر على أكثرهم تلخيصها قراءة وتخريجا ، وقد سهل الله تعالى ، فذكرت أقاويلهم وما هو الراجح منها .

فقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم : " وإن " بالتخفيف ، والباقون بالتشديد . وأما " لما " فقرأها مشددة هنا وفي يس ، وفي سورة الزخرف ، وفي سورة السماء والطارق ، ابن عامر وعاصم وحمزة ، إلا أن عن ابن عامر في الزخرف خلافا : فروى عنه هشام وجهين ، وروى عنه ابن ذكوان التخفيف فقط ، والباقون قرءوا جميع ذلك بالتخفيف . وتلخص من هذا : أن نافعا وابن كثير قرآ : " وإن " و " لما " مخففتين ، وأن أبا بكر عن عاصم خفف " إن " وثقل " لما " ، وأن ابن عامر وحمزة وحفصا عن عاصم شددوا " إن " و " لما " معا ، وأن أبا عمرو والكسائي شددا " إن " وخففا " لما " . فهذه أربع مراتب للقراء في هذين الحرفين .

هذا في المتواتر ، وأما في الشاذ ، فقد قرئ أربع قراءات أخر ، إحداها : قراءة أبي والحسن وأبان بن تغلب " وإن كل " بتخفيفها ، ورفع " كل " ، " لما " بالتشديد ، الثانية : قراءة اليزيدي وسليمان بن أرقم : " لما " مشددة منونة ، ولم يتعرضوا لتخفيف " إن " ولا لتشديدها . الثالثة : قراءة الأعمش وهي في حرف ابن مسعود كذلك : " وإن كل إلا " : بتخفيف " إن " ورفع " [ ص: 398 ] كل " . الرابعة . قال أبو حاتم : " الذي في مصحف أبي ( وإن من كل إلا ليوفينهم ) .

هذا ما يتعلق بها من جهة التلاوة ، أما ما يتعلق بها من حيث التخريج فقد اضطرب الناس فيه اضطرابا كثيرا ، حتى قال أبو شامة : " وأما هذه الآية فمعناها على القراءات من أشكل الآيات ، وتسهيل ذلك بعون الله أن أذكر كل قراءة على حدتها وما قيل فيها .

فأما قراءة الحرميين ففيها إعمال إن المخففة ، وهي لغة ثانية عن العرب . قال سيبويه : " حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول : " إن عمرا لمنطلق " كما قالوا :


2711 - ... ... ... ... كأن ثدييه حقان

قال : " ووجهه من القياس أن " إن " مشبهة في نصبها بالفعل ، والفعل يعمل محذوفا كما يعمل غير محذوف نحو : " لم يك زيد منطلقا " فلا تك في مرية وكذلك لا أدر " . قلت : وهذا مذهب البصريين ، أعني أن هذه الأحرف إذا خفف بعضها جاز أن تعمل وأن تهمل كـ " إن " ، والأكثر الإهمال ، وقد أجمع عليه في قوله : وإن كل لما جميع لدينا [محضرون] ، وبعضها يجب إعماله كـ " أن " بالفتح و " كأن " ، ولكنهما لا يعملان في مظهر ولا ضمير بارز إلا ضرورة ، وبعضها يجب إهماله عند الجمهور كـ " لكن " .

وأما الكوفيون فيوجبون الإهمال في " إن " المخففة ، والسماع حجة عليهم ، بدليل هذه [ ص: 399 ] القراءة المتواترة . وقد أنشد سيبويه على إعمال هذه الحروف مخففة قوله :


2712 - ... ... ... ...     كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم

قال الفراء : " لم نسمع العرب تخفف وتعمل إلا مع المكنى كقوله :


2713 - فلو أنك في يوم الرخاء سألتني     طلاقك لم أبخل وأنت صديق

قال : " لأن المكنى لا يظهر فيه إعراب ، وأما مع الظاهر فالرفع " . قلت : وقد تقدم ما أنشده سيبويه وقول الآخر :


2714 - ... ... ... ...     كأن ثدييه حقان

و [قوله] :


2715 - كأن وريديه رشاء خلب

هذا ما يتعلق بـ " إن " . وأما " لما " في هذه القراءة فاللام فيها هي لام " إن " الداخلة في الخبر . و " ما " يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي واقعة على من يعقل كقوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء فأوقع " ما " على العاقل . واللام في " ليوفينهم " جواب قسم مضمر ، والجملة من القسم وجوابه صلة للموصول ، والتقدير : وإن كلا للذين والله ليوفينهم . ويجوز أن [ ص: 400 ] تكون هنا نكرة موصوفة ، والجملة القسمية وجوابها صفة لـ " ما " والتقدير : وإن كلا لخلق أو لفريق والله ليوفينهم ، والموصول وصلته أو الموصوف وصفته خبر لـ " إن " .

وقال بعضهم : اللام الأولى هي الموطئة للقسم ، ولما اجتمع اللامان ، واتفقا في اللفظ فصل بينهما بـ " ما " كما فصل بالألف بين النونين في " يضربنان " ، وبين الهمزتين في نحو : أأنت . فظاهر هذه العبارة أن " ما " هنا زائدة جيء بها للفصل إصلاحا للفظ ، وعبارة الفارسي مؤذنة بهذا ، إلا أنه جعل اللام الأولى لام " إن " فقال : " العرف أن تدخل لام الابتداء على الخبر ، والخبر هنا هو القسم وفيه لام تدخل على جوابه ، فلما اجتمع اللامان والقسم محذوف ، واتفقا في اللفظ وفي تلقي القسم ، فصلوا بينهما كما فصلوا بين إن واللام " .

وقد صرح الزمخشري بذلك فقال : " واللام في " لما " موطئة للقسم و " ما " مزيدة " ونص الحوفي على أنها لام " إن " . وقال أبو شامة : " واللام في " لما " هي الفارقة بين المخففة من الثقيلة والنافية " وفي هذا نظر ؛ لأن الفارقة إنما يؤتى بها عند التباسها بالنافية ، والالتباس إنما يجيء عند إهمالها نحو : " إن زيد لقائم " وهي في الآية الكريمة معملة فلا التباس بالنافية ، فلا يقال إنها فارقة .

فتلخص في كل من اللام و " ما " ثلاثة أوجه ، أحدها : في اللام : أنها للابتداء الداخلة على خبر " إن " . الثاني : لام موطئة للقسم . الثالث : أنها [ ص: 401 ] جواب القسم كررت تأكيدا . وأحدها في " ما " : أنها موصولة . الثاني : أنها نكرة . الثالث : أنها مزيدة للفصل بين اللامين .

وأما قراءة أبي بكر ففيها أوجه ، أحدها : ما ذهب إليه الفراء وجماعة من نحاة البصرة والكوفة ، وهو أن الأصل : لمن ما ، بكسر الميم على أنها من الجارة دخلت على " ما " الموصولة " أو الموصوفة كما تقرر ، أي : لمن الذين والله ليوفينهم ، أو لمن خلق والله ليوفينهم ، فلما اجتمعت النون ساكنة قبل ميم " ما " وجب إدغامها فيها فقلبت ميما ، وأدغمت فصار في اللفظ ثلاثة أمثال ، فخففت الكلمة بحذف إحداها فصار اللفظ كما ترى " لما " . قال نصر ابن علي الشيرازي : " وصل " من " الجارة بـ " ما " فانقلبت النون أيضا ميما للإدغام ، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت إحداهن ، فبقي " لما " بالتشديد " . قال : و " ما " هنا بمعنى " من " وهو اسم لجماعة الناس كما قال تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء أي من طاب ، والمعنى : وإن كلا من الذين ليوفينهم ربك أعمالهم ، أو جماعة ليوفينهم ربك أعمالهم " .

وقد عين المهدوي الميم المحذوفة فقال : " حذفت الميم المكسورة ، والتقدير ، لمن خلق ليوفينهم " .

الثاني : ما ذهب إليه المهدوي ومكي وهو : أن يكون الأصل : لمن ما بفتح ميم " من " على أنها موصولة أو موصوفة ، و " ما " بعدها مزيدة فقال : " [ ص: 402 ] فقلبت النون ميما ، وأدغمت في الميم التي بعدها ، فاجتمع ثلاث ميمات ، فحذفت الوسطى منهن ، وهي المبدلة من النون ، فقيل " لما " . قال مكي : " والتقدير : وإن كلا لخلق ليوفينهم ربك أعمالهم " ، فترجع إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف ، وهذا الذي حكاه الزجاج عن بعضهم فقال : " زعم بعض النحويين أن أصله لمن ما ، ثم قلبت النون ميما ، فاجتمعت ثلاث ميمات ، فحذفت الوسطى " قال : " وهذا القول ليس بشيء ، لأن " من " لا يجوز حذف بعضها لأنها اسم على حرفين " .

وقال النحاس : " قال أبو إسحاق : هذا خطأ ، لأنه تحذف النون من " من " فيبقى حرف واحد " . وقد رده الفارسي أيضا فقال : " إذ لم يقو الإدغام على تحريك الساكن قبل الحرف المدغم في نحو " قدم مالك " فأن لا يجوز الحذف أجدر " قال : " على أن في هذه السورة ميمات اجتمعت في الإدغام أكثر مما كانت تجتمع في " لمن ما " ولم يحذف منها شيء ، وذلك في قوله تعالى : وعلى أمم ممن معك ، فإذا لم يحذف شيء من هذا فأن لا يحذف ثم أجدر " . قلت : اجتمع في " أمم ممن معك " ثمانية ميمات وذلك أن " أمما " فيها ميمان وتنوين ، والتنوين يقلب ميما لإدغامه في ميم " من " ومعنا نونان : نون من الجارة ونون من الموصولة فيقلبان أيضا ميما لإدغامهما في الميم بعدهما ، ومعنا ميم " معك " ، فحصل معنا خمس ميمات ملفوظ بها ، وثلاث منقلبة إحداها عن تنوين ، واثنتان نون .

واستدل الفراء على أن أصل " لما " " لمن ما " بقول الشاعر :

[ ص: 403 ]

2716 - وإنا لمن ما نضرب الكبش ضربة     على رأسه تلقي اللسان من الفم

وبقول الآخر :


2717 - وإني لمن ما أصدر الأمر وجهه     إذا هو أعيا بالسبيل مصادره

قلت : وقد تقدم في سورة آل عمران في قراءة من قرأ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم بتشديد " لما " أن الأصل : " لمن ما " ففعل فيه ما تقدم ، وهذا أحد الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف في سورته ، وذكرت ما قاله الناس فيه ، فعليك بالنظر فيه .

وقال أبو شامة : " وما قاله الفراء استنباط حسن وهو قريب من قولهم : لكنا هو الله ربي إن أصله : لكن أنا ، ثم حذفت الهمزة ، وأدغمت النون في النون ، وكذا قولهم : " أما أنت منطلقا انطلقت ، قالوا : المعنى لأن كنت منطلقا " . قلت : وفيما قاله نظر ؛ لأنه ليس فيه حذف البتة ، وإنما كان يحسن التنظير أن لو كان فيما جاء به إدغام ، ثم حذف ، وأما مجرد التنظير بالقلب والإدغام فغير طائل .

ثم قال أبو شامة : " وما أحسن ما استخرج الشاهد من البيت " يعني الفراء ، ثم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتي التخفيف والتشديد من " لما " في معنى واحد فقال : " ثم تخفف كما قرأ بعض القراء ( والبغي يعظكم ) .

[ ص: 404 ] بحذف الياء عند الياء ، أنشدني الكسائي :


2718 - وأشمت العداة بنا فأضحوا     لدي يتباشرون بما لقينا

فحذف ياءه لاجتماع الياءات " . قلت : الأولى أن يقال : حذفت ياء الإضافة من " لدي " فبقيت الياء الساكنة قبلها المنقلبة من الألف في " لدى " وهو مثل قراءة من قرأ يا بني بالإسكان على ما سبق ، وأما الياء من " يتباشرون " فثابتة لدلالتها على المضارعة .

ثم قال الفراء : ومثله :


2719 - كأن من آخرها إلقادم      ... ... ... ...

يريد : إلى القادم ، فحذف اللام عند اللام " .

قلت : توجيه قولهم : " من آخرها إلقادم " أن ألف " إلى " حذفت لالتقاء الساكنين ، وذلك أن ألف " إلى " ساكنة ولام التعريف من " القادم " ساكنة ، وهمزة الوصل حذفت درجا ، فلما التقيا حذف أولهما فالتقى لامان : لام " إلى " ولام التعريف ، فحذفت الثانية على رأيه ، والأولى حذف الأولى ؛ لأن الثانية دالة على التعريف لم يبق من حرف " إلى " غير الهمزة فاتصلت بلام " القادم " فبقيت الهمزة على كسرها ، فلهذا تلفظ بهذه الكلمة من آخرها : " ء القادم " بهمزة مكسورة ثابتة درجا لأنها همزة القطع .

[ ص: 405 ] قال أبو شامة : " وهذا قريب من قولهم " ملكذب " و " علماء بنو فلان " و " بلعنبر " يريدون : من الكذب ، وعلى الماء بنو فلان ، وبنو العنبر " . قلت : يريد قوله :


2720 - أبلغ أبا دختنوس مألكة     غير الذي [قد] يقال ملكذب

وقول الآخر :


2721 - فما سبق القيسي من سوء فعله     ولكن طفت علماء غرلة خالد

وقد رد بعضهم قول الفراء بأن نون " من " لا تحذف إلا في ضرورة وأنشد : ملكذب .

الثالث : أن أصلها " لما " بالتخفيف ثم شددت ، وإلى هذا ذهب أبو عثمان . قال الزجاج : " وهذا ليس بشيء لأنا لسنا نثقل ما كان على حرفين ، وأيضا فلغة العرب على العكس من ذلك يخففون ما كان مثقلا نحو : " رب " في " رب " . وقيل في توجيهه : إنما يكون في الحرف إذا كان آخرا ، والميم هنا حشو لأن الألف بعدها ، إلا أن يقال : إنه أجرى الحرف المتوسط مجرى المتأخر كقوله :


2722 -     مثل الحريق وافق القصبا

[ ص: 406 ] يريد : القصب ، فلما أشبع الفتحة تولد منها ألف ، وضعف الحرف ، وكذلك قوله :


2723 - ببازل وجناء أو عيهلي      ... ... ... ...

شدد اللام مع كونها حشوا بياء الإطلاق . وقد يفرق بأن الألف والياء في هذين البيتين في حكم المطرح ، لأنهما نشآ من حركة بخلاف ألف " لما " فإنها أصلية ثابتة ، وبالجملة فهو وجه ضعيف جدا .

الرابع : أن أصلها " لما " بالتنوين ثم بني منه فعلى ، فإن جعلت ألفه للتأنيث لم تصرفه ، وإن جعلتها للإلحاق صرفته ، وذلك كما قالوا في " تترى " بالتنوين وعدمه ، وهو مأخوذ من قولك لممته أي : جمعته ، والتقدير : وإن كلا جميعا ليوفينهم ، ويكون " جميعا " فيه معنى التوكيد ككل ، ولا شك أن " جميعا " يفيد معنى زائدا على " كل " عند بعضهم . قال : " ويدل على ذلك قراءة من قرأ " لما " بالتنوين " .

الخامس : أن الأصل " لما " بالتنوين أيضا ، ثم أبدل التنوين ألفا وقفا ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف . وقد منع من هذا الوجه أبو عبيد قال : " لأن ذلك إنما يجوز في الشعر " يعني إبدال التنوين ألفا وصلا إجراء له مجرى الوقف ، وسيأتي توجيه قراءة " لما " بالتنوين بعد ذلك .

وقال أبو عمرو بن الحاجب : " استعمال " لما " في هذا المعنى بعيد ، وحذف التنوين من المنصرف في الوصل أبعد ، فإن قيل : لما فعلى من اللم ، ومنع الصرف لأجل ألف التأنيث ، والمعنى فيه مثل معنى " لما " المنصرف [ ص: 407 ] فهو أبعد ، إذ لا يعرف " لما " فعلى بهذا المعنى ولا بغيره ، ثم كان يلزم هؤلاء أن يميلوا كمن أمال ، وهو خلاف الإجماع ، وأن يكتبوها بالياء ، وليس ذلك بمستقيم " .

السادس : أن " لما " زائدة كما تزاد " إلا " قاله أبو الفتح وغيره ، وهذا وجه لا اعتبار به فإنه مبني على وجه ضعيف أيضا ، وهو أن " إلا " تأتي زائدة .

السابع : أن " إن " نافية بمنزلة " ما " ، و " لما " بمعنى " إلا " فهي كقوله : إن كل نفس لما عليها أي : ما كل نفس إلا عليها ، وإن كل ذلك لما متاع أي : ما كل ذلك إلا متاع . واعترض على هذا الوجه بأن " إن " النافية لا تنصب الاسم بعدها ، وهذا اسم منصوب بعدها . وأجاب بعضهم عن ذلك بأن " كلا " منصوب بإضمار فعل ، فقدره قوم منهم أبو عمر ابن الحاجب : وإن أرى كلا ، وإن أعلم ، ونحوه ، قال : " ومن ههنا كانت أقل إشكالا من قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجه الذي هو غير مستبعد ذلك الاستبعاد ، وإن كان في نصب الاسم الواقع بعد حرف النفي استبعاد ، ولذلك اختلف في مثل قوله :


2724 - ألا رجلا جزاه الله خيرا     يدل على محصلة تبيت

هل هو منصوب بفعل مقدر أو نون ضرورة ؟ فاختار الخليل إضمار الفعل ، واختار يونس التنوين للضرورة " ، وقدره بعضهم بعد " لما " من لفظ " [ ص: 408 ] ليوفينهم " والتقدير : وإن كلا إلا ليوفين ليوفينهم . وفي هذا التقدير بعد كبير أو امتناع ؛ لأن ما بعد " إلا " لا يعمل فيما قبلها . واستدل أصحاب هذا القول أعني مجيء " لما " بمعنى " إلا " بنص الخليل وسيبويه على ذلك ، ونصره الزجاج ، قال بعضهم : " وهي لغة هذيل يقولون : سألتك بالله لما فعلت أي : إلا فعلت " . وقد أنكر الفراء وأبو عبيد ورود " لما " بمعنى إلا ، قال : أبو عبيد : " أما من شدد " لما " بتأويل " إلا " فلم نجد هذا في كلام العرب ، ومن قال هذا لزمه أن يقول : " قام القوم لما أخاك " يريد : إلا أخاك ، وهذا غير موجود " .

وقال الفراء : " وأما من جعل " لما " بمنزلة " إلا " فهو وجه لا نعرفه ، وقد قالت العرب في اليمين : " بالله لما قمت عنا " ، و " إلا قمت عنا " ، فأما في الاستثناء فلم نقله في شعر ولا في غيره ، ألا ترى أن ذلك لو جاز لسمعت في الكلام : ذهب الناس لما زيدا " .

فأبو عبيد أنكر مجيء " لما " بمعنى " إلا " مطلقا ، والفراء جوز ذلك في القسم خاصة ، وتبعه الفارسي في ذلك فإنه قال في تشديد " لما " في هذه الآية : " لا يصلح أن تكون بمعنى " إلا " ؛ لأن " لما " هذه لا تفارق القسم " ورد الناس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه ، وبأنها لغة هذيل مطلقا ، وفيه نظر ، فإنهم لما حكوا اللغة الهذيلية حكوها في القسم كما تقدم من نحو : " نشدتك بالله لما فعلت " و " أسألك بالله لما فعلت " . وقال أبو علي أيضا [ ص: 409 ] مستشكلا لتشديد " لما " في هذه السورة على تقدير أن " لما " بمعنى " إلا " لا تختص بالقسم ما معناه : أن تشديد " لما " ضعيف سواء شددت " إن " أم خففت ، قال : " لأنه قد نصب بها " كلا " ، وإذا نصب بالمخففة كانت بمنزلة المثقلة ، وكما لا يحسن : " إن زيدا إلا منطلق " ، لأن الإيجاب بعد نفي ، ولم يتقدم هنا إلا إيجاب مؤكد ، فلذا لا يحسن : إن زيدا لما منطلق " لأنه بمعناه ، وإنما ساغ : " نشدتك الله إلا فعلت ولما فعلت " لأن معناه الطلب ، فكأنه قال : ما أطلب منك إلا فعلك ، فحرف النفي مراد مثل : تالله تفتأ ، ومثل ذلك أيضا بقولهم : " شر أهر ذا ناب " أي : ما أهره إلا شر ، قال : " وليس في الآية معنى النفي ولا الطلب . وقال الكسائي : " لا أعرف وجه التثقيل في لما " . قال الفارسي : " ولم يبعد فيما قال " . وروي عن الكسائي أيضا أنه قال : " الله عز وجل أعلم بهذه القراءة ، لا أعرف لها وجها " .

الثامن : قال الزجاج : " قال بعضهم قولا ولا يجوز غيره : " إن " لما " في معنى إلا ، مثل إن كل نفس لما عليها حافظ ثم أتبع ذلك بكلام طويل مشكل حاصله يرجع إلى أن معنى " إن زيد لمنطلق " : ما زيد إلا منطلق ، فأجريت المشددة كذلك في هذا المعنى إذا كانت اللام في خبرها ، وعملها النصب في اسمها باق بحاله مشددة ومخففة ، والمعنى نفي بـ " إن " وإثبات باللام التي بمعنى إلا ، ولما بمعنى إلا " .

قلت : قد تقدم إنكار أبي علي على جواز " إلا " في مثل هذا التركيب فكيف يجوز " لما " التي بمعناها ؟

وأما قراءة ابن عامر وحمزة وحفص ففيها وجوه ، أحدها : أنها " إن " [ ص: 410 ] المشددة على حالها ، فلذلك نصب ما بعدها على أنه اسمها ، وأما " لما " فالكلام فيها كما تقدم من أن الأصل " لمن ما " بالكسر أو " لمن ما " بالفتح ، وجميع تلك الأوجه التي ذكرتها تعود ههنا . والقول بكونها بمعنى " إلا " مشكل كما تقدم تحريره عن أبي علي هنا .

الثاني : قال المازني : " إن " هي المخففة ثقلت ، وهي نافية بمعنى " ما " كما خففت " إن " ومعناها المثقلة و " لما " بمعنى " إلا " . وهذا قول ساقط جدا لا اعتبار به ، لأنه لم يعهد تثقيل " إن " النافية ، وأيضا فـ " كلا " بعدها منصوب ، والنافية لا تنصب .

الوجه الثالث : أن " لما " هنا هي الجازمة للمضارع حذف مجزومها لفهم المعنى . قال الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب في أماليه : " لما " هذه هي الجازمة فحذف فعلها للدلالة عليه ، لما ثبت من جواز حذف فعلها في قولهم : " خرجت ولما " و " سافرت ولما " وهو شائع فصيح ، ويكون المعنى : وإن كلا لما يهملوا أو يتركوا لما تقدم من الدلالة عليه من تفصيل المجموعين بقوله فمنهم شقي وسعيد ، ثم فصل الأشقياء والسعداء ، ومجازاتهم ، ثم بين ذلك بقوله ليوفينهم ربك أعمالهم ، قال : " وما أعرف وجها أشبه من هذا ، وإن كانت النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يرد في القرآن " ، قال : " والتحقيق يأبى استعباده " . قلت : وقد نص النحويون على أن " لما " يحذف [ ص: 411 ] مجزومها باطراد ، قالوا : لأنها لنفي قد فعل ، وقد يحذف بعدها الفعل كقوله :


2725 - أفد الترحل غير أن ركابنا     لما تزل برحالنا وكأن قد

أي : وكأن قد زالت ، فكذلك منفيه ، وممن نص عليه الزمخشري ، على حذف مجزومها ، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب " معاني الشعر " له قول الشاعر :


2726 - فجئت قبورم بدءا ولما     فناديت القبور فلم يجبنه

قال : قوله " بدءا " ، أي : سيدا ، وبدء القوم سيدهم ، وبدء الجزور خير أنصبائها ، قال : " وقوله " ولما " ، أي : ولما أكن سيدا إلا حين ماتوا فإني سدت بعدهم ، كقول الآخر :


2727 - خلت الديار فسدت غير مسود     ومن العناء تفردي السؤدد

قال : " ونظير السكوت على " لما " دون فعلها السكوت على " قد " دون فعلها في قول النابغة : أفد الترحل : البيت " .

قلت : وهذا الوجه لا خصوصية له بهذه القراءة ، بل يجيء في قراءة من شدد " لما " سواء شدد " إن " أو خففها .

[ ص: 412 ] وأما قراءة أبي عمرو والكسائي فواضحة جدا ، فإنها " إن " المشددة عملت عملها ، واللام الأولى لام الابتداء الداخلة على خبر " إن " ، والثانية جواب قسم محذوف ، أي : وإن كلا للذين والله ليوفينهم ، وقد تقدم وقوع " ما " على العقلاء مقررا ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : وإن منكم لمن ليبطئن غير أن اللام في " لمن " داخلة على الاسم ، وفي " لما " داخلة على الخبر . وقال بعضهم : " ما " هذه زائدة زيدت للفصل بين اللامين : لام التوكيد ولام القسم . وقيل : اللام في " لما " موطئة للقسم مثل اللام في قوله تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك ، والمعنى : وإن جميعهم والله ليوفينهم ربك أعمالهم من حسن وقبح وإيمان وجحود .

وقال الفراء عند ذكره هذه القراءة : " جعل " ما " اسما للناس كما جاز فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، ثم جعل اللام التي فيها جوابا لإن ، وجعل اللام التي في " ليوفينهم " لاما دخلت على نية يمين فيما بين " ما " وصلتها كما تقول : " هذا من ليذهبن " ، و " عندي ما لغيره خير منه " ومثله : وإن منكم لمن ليبطئن . ثم قال بعد ذلك ما يدل على أن اللام مكررة فقال : " إذا عجلت العرب باللام في غير موضعها أعادوها إليه نحو : إن زيدا لإليك لمحسن ، ومثله :


2728 - [ ص: 413 ] ولو أن قومي لم يكونوا أعزة     لبعد لقد لاقيت لا بد مصرعا

قال : " أدخلها في " بعد " ، وليس بموضعها ، وسمعت أبا الجراح يقول : " إني لبحمد الله لصالح " .

وقال الفارسي في توجيه هذه القراءة : " وجهها بين وهو أنه نصب " كلا " بإن ، وأدخل لام الابتداء في الخبر ، وقد دخلت في الخبر لام أخرى ، وهي التي يتلقى بها القسم ، وتختص بالدخول على الفعل ، فلما اجتمعت اللامان فصل بينهما كما فصل بين " إن " واللام ، فدخلتها وإن كانت زائدة للفصل ، ومثله في الكلام : " إن زيدا لما لينطلقن " .

فهذا ما تلخص لي من توجيهات هذه القراءات الأربع ، وقد طعن بعض الناس في بعضها بما لا تحقق له ، فلا ينبغي أن يلتفت إلى كلامه ، قال المبرد : وهي جرأة منه " هذا لحن " يعني تشديد " لما " قال : " لأن العرب لا تقول : " إن زيدا لما خارج " .

وهذا مردود عليه . قال الشيخ : " وليس تركيب الآية كتركيب المثال الذي قال وهو : " إن زيدا لما خارج " ، هذا المثال لحن " .

قلت : إن عنى أنه ليس مثله في التركيب من كل وجه فمسلم ، ولكن ذلك لا يفيد فيما نحن بصدده ، وإن عنى أنه ليس مثله في كونه دخلت " لما " المشددة على خبر إن فليس كذلك بل هو مثله في ذلك ، فتسليمه اللحن في المثال المذكور ليس بصواب ، لأنه يستلزم ما لا يجوز أن يقال .

وقال أبو جعفر : " القراءة بتشديدهما عند أكثر النحويين لحن ، حكي عن محمد بن يزيد أنه قال : " إن هذا لا يجوز ، ولا يقال : " إن زيدا إلا [ ص: 414 ] لأضربنه " ، ولا " لما لأضربنه " . قال : " وقال الكسائي : الله عز وجل أعلم ، لا أعرف لهذه القراءة وجها " وقد تقدم ذلك ، وتقدم أيضا أن الفارسي قال : " كما لا يحسن : " إن زيدا إلا لمنطلق " ؛ لأن " إلا " إيجاب بعد نفي ، ولم يتقدم هنا إلا إيجاب مؤكد ، فكذا لا يحسن " إن زيدا لما منطلق " ، لأنه بمعناه ، وإنما ساغ " نشدتك بالله لما فعلت " إلى آخر ما ذكرته عنه . وهذه كلها أقوال مرغوب عنها لأنها معارضة للمتواتر القطعي .

وأما القراءات الشاذة فأولها قراءة أبي ومن تبعه : وإن كل لما بتخفيف " إن " ورفع " كل " على أنها إن النافية و " كل " مبتدأ ، و " لما " مشددة بمعنى إلا ، و " ليوفينهم " جواب قسم محذوف ، وذلك القسم وجوابه خبر المبتدأ . وهي قراءة جلية واضحة كما قرءوا كلهم : وإن كل لما جميع ومثله : وإن كل ذلك لما متاع ، ولا التفات إلى قول من نفى أن " لما " بمنزلة إلا فقد تقدمت أدلته .

وأما قراءة اليزيدي وابن أرقم " لما " بالتشديد منونة ف " لما " فيها مصدر من قولهم : " لممته أي جمعته لما " ، ومنه قوله تعالى : وتأكلون التراث أكلا لما ثم في تخريجه وجهان ، أحدهما ما قاله أبو الفتح ، وهو أن يكون منصوبا بقوله : " ليوفينهم " على حد قولهم : " قياما لأقومن ، وقعودا لأقعدن " والتقدير : توفية جامعة لأعمالهم ليوفينهم ، يعني أنه منصوب على المصدر الملاقي لعامله في المعنى دون الاشتقاق .

[ ص: 415 ] والثاني : ما قاله أبو علي الفارسي وهو : أن يكون وصفا ل " كل " وصفا بالمصدر مبالغة ، وعلى هذا فيجب أن يقدر المضاف إليه " كل " نكرة ليصح وصف " كل " بالنكرة ، إذ لو قدر المضاف معرفة لتعرفت " كل " ، ولو تعرفت لامتنع وصفها بالنكرة فلذلك قدر المضاف إليه نكرة ، ونظير ذلك قوله تعالى :

وتأكلون التراث أكلا لما ، فوقع " لما " نعتا لـ " أكلا " وهو نكرة .

قال أبو علي : " ولا يجوز أن يكون حالا لأنه لا شيء في الكلام عامل في الحال " .

[وظاهر عبارة الزمخشري أنه تأكيد تابع لـ " كلا " كما يتبعها أجمعون ، أو أنه منصوب على النعت لـ " كلا " ] فإنه قال : وإن كلا لما ليوفينهم كقوله " أكلا لما " ملمومين بمعنى مجموعين ، كأنه قيل : وإن كلا جميعا ، كقوله تعالى : فسجد الملائكة كلهم أجمعون انتهى . لا يريد بذلك أنه تأكيد صناعي ، بل فسر معنى ذلك ، وأراد أنه صفة لـ " كلا " ، ولذلك قدره بمجموعين . وقد تقدم لك في بعض توجيهات " لما " بالتشديد من غير تنوين أن المنون أصلها ، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف ، وقد عرف ما فيه . وخبر " إن " على هذه القراءة هي جملة القسم المقدر وجوابه سواء في ذلك تخريج أبي الفتح وتخريج شيخه .

[ ص: 416 ] وأما قراءة الأعمش فواضحة جدا وهي مفسرة لقراءة الحسن المتقدمة ، لولا ما فيها من مخالفة سواد الخط .

وأما قراءة ما في مصحف أبي كما نقلها أبو حاتم فإن فيها نافية ، و " من " زائدة " في النفي ، و " كل " مبتدأ ، و " ليوفينهم " مع قسمه المقدر خبرها ، فتؤول إلى قراءة الأعمش التي قبلها ، إذ يصير التقدير بدون " من " : ( وإن كل إلا ليوفينهم ) .

والتنوين في " كلا " عوض من المضاف إليه . قال الزمخشري : " يعني : وإن كلهم ، وإن جميع المختلفين فيه " . وقد تقدم أنه على قراءة " لما " بالتنوين في تخريج أبي علي له لا يقدر المضاف إليه " كل " إلا نكرة لأجل نعتها بالنكرة .

وانظر إلى ما تضمنته هذه الآية الكريمة من التأكيد ، فمنها : التوكيد بـ " إن " وبـ " كل " وبلام الابتداء الداخلة على خبر " إن " وزيادة " ما " على رأي ، وبالقسم المقدر وباللام الواقعة جوابا له ، وبنون التوكيد ، وبكونها مشددة ، وإردافها بالجملة التي بعدها من قوله إنه بما يعملون خبير فإنه يتضمن وعيدا شديدا للعاصي ووعدا صالحا للطائع .

وقرأ العامة " يعملون " بياء الغيبة ، جريا على ما تقدم من المختلفين . وقرأ ابن هرمز " بما تعملون " بالخطاب فيجوز أن يكون التفاتا من غيبة إلى خطاب ، ويكون المخاطبون هم الغيب المتقدمون ، ويجوز أن يكون التفاتا إلى خطاب غيرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية