صفحة جزء
آ . (75) قوله تعالى : جزاؤه من وجد : أربعة أوجه ، أحدها : أن يكون " جزاؤه " مبتدأ والضمير للسارق ، و " من " شرطية أو موصولة مبتدأ ثان ، والفاء جواب الشرط أو مزيدة في خبر الموصول لشبهه بالشرط ، و " من " وما في حيزها على وجهيها خبر المبتدأ الأول ، قاله ابن عطية ، وهو مردود بعدم رابط بين المبتدأ وبين الجملة الواقعة خبرا عنه ، هكذا رده الشيخ عليه . وليس بظاهر ؛ لأنه يجاب عنه بأن هذه المسألة من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ، ويتضح هذا بتقرير الزمخشري قال رحمه الله : " ويجوز أن يكون " جزاؤه " مبتدأ ، والجملة الشرطية كما هي خبره ، على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر . والأصل : جزاؤه من وجد في رحله فهو هو ، فوضع الجزاء موضع " هو " كما تقول لصاحبك : من أخو زيد ؟ فيقول لك : " أخوه من يقعد إلى جنبه ، فهو هو " يرجع الضمير الأول إلى " من " والثاني [إلى] الأخ ، ثم تقول : فهو أخوه ، مقيما للمظهر مقام المضمر " .

والشيخ جعل هذا الذي حكيته عن الزمخشري وجها ثانيا بعد الأول ولم يعتقد أنه هو بعينه ، ولا أنه جواب عما رد به على ابن عطية . ثم قال : " ووضع الظاهر موضع المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتأويل ، وغير فصيح فيما سوى ذلك نحو : زيد قام زيد ، وينزه عنه القرآن ، قال سيبويه : " لو قلت : " كان زيد منطلقا زيد " لم يكن حد الكلام ، وكان [ ص: 530 ] ههنا ضعيفا ولم يكن كقولك : ما زيد منطلقا هو لأنك قد استغنيت عن إظهاره ، وإنما ينبغي لك أن تضمره " . قلت : ومذهب الأخفش أنه جائز مطلقا وعليه بنى الزمخشري .

وقد جوز أبو البقاء ما توهم أنه جواب عن ذلك فقال : " والوجه الثالث : أن يكون " جزاؤه " مبتدأ ، و " من وجد " مبتدأ ثان ، و " فهو " مبتدأ ثالث ، و " جزاؤه " خبر الثالث ، والعائد على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة ، وعلى الثاني " هو " انتهى . وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يصح ، إذ يصير التقدير : فالذي وجد في رحله جزاء الجزاء ؛ لأنه جعل " هو " عبارة عن المبتدأ الثاني ، وهو من وجد في رحله ، وجعل الهاء الأخيرة وهي التي في " جزاؤه " الأخير عائدة على " جزاؤه " الأول ، وصار التقدير كما ذكرته لك .

الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة : أن يكون " جزاؤه " مبتدأ ، والهاء تعود على المسروق ، و من وجد في رحله خبره ، و " من " بمعنى الذي ، والتقدير : جزاء الصواع الذي وجد في رحله ، كذلك كانت شريعتهم : يسترق السارق ، فلذلك استفتوا في جزائه .

وقوله " فهو جزاؤه " تقرير للحكم أي : فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كقولك : حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه ، فذلك حقه " أي فهو حقه لتقرر ما ذكرته من استحقاق وتلزمه ، قاله الزمخشري . ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه قال : " والتقدير استعباد من وجد في رحله ، وقوله : " فهو جزاؤه " مبتدأ وخبر ، مؤكد لمعنى الأول " .

ولما ذكر الشيخ هذا الوجه ناقلا له عن الزمخشري قال : " وقال معناه [ ص: 531 ] ابن عطية ، إلا أنه جعل القول الواحد قولين ، قال : " ويصح أن يكون " من " خبرا على أن المعنى : جزاء السارق من وجد في رحله ، عائد على " من " ويكون قوله : " فهو جزاؤه " زيادة بيان وتأكيد " ، ثم قال : " ويحتمل أن يكون التقدير : جزاؤه استرقاق من وجد في رحله ، وفيما قبله لا بد من تقديره ؛ لأن الذات لا تكون خبرا عن المصدر ، فالتقدير في القول قبله : جزاؤه أخذ من وجد في رحله أو استرقاقه ، هذا لا بد منه على هذا الإعراب " قلت : وهذا كما قال الشيخ ظاهره أنه جعل القول الواحد قولين .

الوجه الثالث من الأوجه المتقدمة : أن يكون " جزاؤه " خبر مبتدأ محذوف أي : المسؤول عنه جزاؤه ، ثم أفتوا بقولهم : " من وجد في رحله فهو جزاؤه " كما يقول من يستفتي في جزاء صيد المحرم : جزاء صيد المحرم ، ثم يقول : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : " وهو متكلف إذ تصير الجملة من قوله : " المسئول عنه جزاؤه " على هذا التقدير ليس فيه كبير فائدة ؛ إذ قد علم من قوله : " فما جزاؤه " أن الشيء المسئول عنه جزاء سرقته ، فأي فائدة في نطقهم بذلك ؛ وكذلك القول في المثال الذي مثل به من قول المستفتي " .

قلت : قوله : " ليس فيه كبير فائدة " ممنوع بل فيه فائدة الإضمار المذكور في علم البيان ، وفي القرآن أمثال ذلك .

[ ص: 532 ] الوجه الرابع : أن يكون " جزاؤه " مبتدأ ، وخبره محذوف تقديره : جزاؤه عندنا كجزائه عندكم ، والهاء تعود على السارق أو على المسروق ، وفي الكلام المتقدم دليل عليهما ، ويكون قوله : " من وجد في رحله فهو جزاؤه على ما تقدم في الوجه الذي قبله ، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ، ولم يذكره الشيخ ، فقد جعل في الآية الكريمة أربعة أوجه ، وتقدم أن الأول والثاني وجه كما بينته ، فإذا ضممنا هذا الوجه الأخير الذي بدأ به أبو البقاء إلى الأربعة التي ذكرها الشيخ صارت خمسة ، ولكن لا تحقيق لذلك ، وكذلك إذا التفتنا إلى قول ابن عطية في جعله القول الواحد قولين تصير ستة في اللفظ ، فإذا حققتها لم تجئ إلا أربعة كما ذكرتها لك .

قوله : كذلك نجزي الظالمين محل الكاف نصب : إما على أنها نعت لمصدر محذوف ، وإما حال من ضميره ، أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية