صفحة جزء
آ. (57) قوله تعالى: ولهم ما يشتهون : يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن هذا جملة من مبتدأ وخبر، أي: يجعلون لله البنات، ثم أخبر أن لهم ما يشتهون. وجوز الفراء والحوفي والزمخشري وأبو البقاء أن تكون "ما" منصوبة المحل عطفا على "البنات" و "لهم" عطف على "لله"، أي: ويجعلون لهم ما يشتهون.

قال الشيخ: "وقد ذهلوا عن قاعدة نحوية: وهو أنه لا يتعدى فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل إلا في باب ظن وفي عدم وفقد، ولا فرق بين أن يتعدى الفعل بنفسه أو بحرف الجر، فلا يجوز: "زيد ضربه"، أي: ضرب نفسه، ولا "زيد مر به"، أي: مر بنفسه، ويجوز: "زيد ظنه قائما"، و "زيد فقده" و "عدمه"، أي: ظن نفسه قائما وفقد نفسه وعدمها. إذ تقرر هذا فجعل "ما" منصوبة عطفا على "البنات" يؤدي إلى تعدي فعل المضمر المتصل وهو واو "يجعلون" إلى ضميره المتصل، [ ص: 243 ] وهو "هم" في "لهم". انتهى ملخصا.

وما ذكره يحتاج إلى إيضاح أكثر من هذا فأقول فيها مختصرا: اعلم أنه لا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل ولا فعل الظاهر إلى ضميرهما المتصل، إلا في باب ظن وأخواتها من أفعال القلوب، وفي فقد وعدم، فلا يجوز: "زيد ضربه "ولا" ضربه زيد"، أي: ضرب نفسه. ويجوز: "زيد ظنه قائما"، و "ظنه زيد قائما"، و "زيد فقده وعدمه"، و "فقده وعدمه زيد"، ولا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل إلى ظاهره في باب من الأبواب، لا يجوز "زيدا ضرب"، أي: ضرب نفسه.

وفي قولي: "إلى ضميرهما المتصل" قيدان أحدهما: كونه ضميرا، فلو كان ظاهرا كالنفس لم يمتنع نحو: "زيد ضرب نفسه" و "ضرب نفسه زيد". والثاني: كونه متصلا، فلو كان منفصلا جاز نحو: "زيد ما ضرب إلا إياه"، و "ما ضرب زيد إلا إياه"، وعلل هذه المسألة وأدلتها موضوعها غير هذا الموضوع، وقد أتقنتها في "شرح التسهيل".

وقال مكي: "وهذا لا يجوز عند البصريين، كما لا يحوز: جعلت لي طعاما"، إنما يجوز: "جعلت لنفسي طعاما"، فلو كان لفظ القرآن "ولأنفسهم ما يشتهون" جاز ما قال الفراء عند البصريين. وهذا أصل يحتاج إلى تعليل وبسط كثير".

قلت: ما أشار إليه من المنع قد عرفته ولله الحمد مما قدمته لك. [ ص: 244 ] وقال الشيخ بعد ما حكى أن "ما" في موضع نصب عن الفراء ومن تبعه: "وقال أبو البقاء وقد حكاه -: وفيه نظر". قلت: وأبو البقاء لم يجعل النظر في هذا الوجه، إنما جعله في تضعيفه بكونه يؤدي إلى تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل في غير ما استثني فإنه قال: "وضعف قوم هذا الوجه وقالوا: لو كان كذلك لقال: ولأنفسهم، وفيه نظر"، فجعل النظر في تضعيفه لا فيه.

وقد يقال: وجه النظر الممتنع تعدي ذلك الفعل، أي: وقوعه على ما جر بالحرف نحو: "زيد مر به" فإن المرور واقع بزيد، وأما ما نحن فيه فليس الجعل واقعا بالجاعلين، بل بما يشتهون، وكان الشيخ يعترض دائما على القاعدة المتقدمة بقوله تعالى: وهزي إليك بجذع النخلة ، واضمم إليك جناحك والجواب عنهما ما تقدم: وهو أن الهز والضم ليسا واقعين بالكاف، وقد تقدم لنا هذا في مكان آخر، وإنما أعدته لصعوبته وخصوصية هذا بزيادة فائدة.

التالي السابق


الخدمات العلمية