صفحة جزء
آ. (47) قوله تعالى: بما يستمعون : متعلق ب "أعلم". وما كان من باب العلم والجهل في أفعل التفضيل وأفعل في التعجب تعدى بالباء نحو: أنت أعلم به، وما أعلمك به!! وهو أجهل به، وما أجهله به!! ومن غيرهما يتعدى في البابين باللام نحو: أنت أكسى للفقراء. و "ما" بمعنى الذي، وهي عبارة عن الاستخفاف والإعراض فكأنه قال: نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به. قاله ابن عطية.

قوله: "به" فيه أوجه، أحدها: أنه حال، فيتعلق بمحذوف. قال الزمخشري : "وبه في موضع الحال كما [تقول:] يستمعون بالهزء، أي: هازئين". الثاني: أنها بمعنى اللام، أي: بما يستمعون له. الثالث: [ ص: 365 ] أنهما على بابها، أي: يستمعون بقلوبهم أو بظاهر أسماعهم، قالهما أبو البقاء. الرابع: قال الحوفي: "لم يقل يستمعونه ولا يستمعونك; لما كان الغرض ليس الإخبار عن الاستماع فقط، وكان مضمنا أن الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا: مجنون أو مسحور جاء الاستماع به وإلى، ليعلم أن الاستماع ليس المراد به تفهم المسموع دون هذا المقصد"، فعلى هذا أيضا تتعلق الباء ب "يستمعون".

قوله: "إذ يستمعون" فيه وجهان: أحدهما: أنه معمول ل "أعلم". قال الزمخشري : "إذ يستمعون نصب ب "أعلم"، أي: أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون، وبما يتناجون به، إذ هم ذوو نجوى". والثاني: أنه منصوب ب "يستمعون" الأولى. قال ابن عطية: والعامل في "إذ" الأولى وفي المعطوف "يستمعون" الأول. وقال الحوفي: ف "إذ" الأولى تتعلق ب "يستمعون" وكذا: وإذ هم نجوى لأن المعنى: نحن أعلم بالذي يستمعون إليك وإلى قراءتك وكلامك، إنما يستمعون لسقطك، وتتبع عيبك، والتماس ما يطعنون به عليك، يعني في زعمهم; ولهذا ذكر تعديته بالباء و "إلى".

قوله: "نجوى" يجوز أن يكون مصدرا فيكون من إطلاق المصدر على العين مبالغة، أو على حذف مضاف، أي: ذوو نجوى، كما قاله الزمخشري . ويجوز أن يكون جمع نجي كقتيل وقتلى. قاله أبو البقاء.

[ ص: 366 ] قوله: إذ يقول بدل من "إذ" الأولى في أحد القولين، والقول الآخر: أنها معمولة ل "اذكر" مقدرا.

قوله: "مسحورا" الظاهر أنه اسم مفعول من "السحر" بكسر السين، أي: مخبول العقل أو مخدوعه. وقال أبو عبيدة: "معناه أن له سحرا" أي: رئة بمعنى أنه لا يستغني عن الطعام والشراب، فهو بشر مثلكم.

وتقول العرب للجبان: "قد انتفخ سحره" بفتح السين، ولكل من أكل وشرب: مسحور، ومسحر. فمن الأول قول امرئ القيس:


3069 - أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب

أي: نغذى ونعلل. ومن الثاني قول لبيد:


3070 - فإن تسألينا فيم نحن فإننا     عصافير من هذا الأنام المسحر

ورد الناس على أبي عبيدة قوله لبعده لفظا ومعنى. قال ابن قتيبة: "لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع ما فسره السلف بالوجوه الواضحة". قلت: وأيضا فإن "السحر" الذي هو الرئة لم يضرب له فيه مثل بخلاف "السحر"، فإنهم ضربوا له فيه المثل، فما بعد الآية من قوله: انظر كيف ضربوا لك الأمثال لا يناسب إلا "السحر" بالكسر.

التالي السابق


الخدمات العلمية