صفحة جزء
آ. (16) قوله تعالى: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى : "أولئك" رفع بالابتداء، والذين وصلته خبره، وقوله تعالى: فما ربحت تجارتهم هذه الجملة عطف على الجملة الواقعة صلة، وهي "اشتروا" وزعم بعضهم أنها خبر المبتدأ، وأن الفاء دخلت في الخبر لما تضمنه الموصول من معنى الشرط، وجعل ذلك نظير قوله: الذين ينفقون أموالهم ثم قال: فلهم أجرهم وهذا وهم؛ لأن (الذين اشتروا) ليس مبتدأ حتى يدعى دخول الفاء في خبره، بل هو خبر عن "أولئك" كما تقدم.

فإن قيل: يكون الموصول مبتدأ ثانيا فتكون الفاء دخلت في خبره فالجواب أنه يلزم من ذلك عدم الربط بين المبتدأ والجملة الواقعة خبرا عنه، وأيضا فإن الصلة ماضية معنى.

فإن قيل: يكون "الذين" بدلا من "أولئك" فالجواب أنه يصير الموصول مخصوصا لإبداله من مخصوص، والصلة - أيضا - ماضية.

فإن قيل: يكون "الذين" صفة لأولئك ويصير نظير قولك: "الرجل الذي يأتيني فله درهم" فالجواب: أنه مردود بما رد به السؤال الثاني، وبأنه لا يجوز أن يكون وصفا له؛ لأنه أعرف منه فبان فساد هذا القول.

والمشهور ضم واو "اشتروا" لالتقاء الساكنين، وإنما ضمت تشبيها بتاء الفاعل.

وقيل: للفرق بين واو الجمع والواو الأصلية نحو: لو استطعنا.

وقيل: لأن الضمة هنا أخف من الكسرة لأنها من جنس الواو.

وقيل: حركت بحركة الياء المحذوفة، فإن الأصل اشتريوا كما سيأتي.

وقيل: هي للجمع فهي مثل: نحن.

وقرئ بكسرها على أصل التقاء الساكنين، وبفتحها؛ لأنه أخف.

وأجاز الكسائي همزها تشبيها لها بأدؤر وأثؤب وهو ضعيف؛ لأن [ ص: 152 ] ضمها غير لازم، وقال أبو البقاء : "ومنهم من يختلسها، فيحذفها لالتقاء الساكنين وهو ضعيف جدا; لأن قبلها فتحة، والفتحة لا تدل عليها".

وأصل (اشتروا): اشتريوا، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وبقيت الفتحة دالة عليها، وقيل: بل حذفت الضمة من الياء فسكنت، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء لالتقائهما.

فإن قيل: فواو الجمع قد حركت فينبغي أن يعود الساكن المحذوف، فالجواب أن هذه الحركة عارضة، فهو في حكم الساكن، ولم يجئ ذلك إلا في ضرورة شعر، أنشد الكسائي:


202 - يا صباح لم تنام العشيا ... ... ... ...



فأعاد الألف لما حركت الميم حركة عارضة.

و"الضلالة" مفعوله، و"بالهدى" متعلق بـ"اشتروا"، والباء هنا للعوض وهي تدخل على المتروك أبدا.

فأما قوله تعالى: فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة فإن ظاهره أن الآخرة هي المأخوذة لا المتروكة، فالجواب ما قاله الزمخشري - رحمه الله تعالى - من أن المراد بالمشترين المبطئون، وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان بالله تعالى وسوله، ويجاهدوا في الله حق الجهاد، فحينئذ إنما دخلت الباء على المتروك.

[ ص: 153 ] والشراء هنا مجاز عن الاستبدال بمعنى أنهم لما تركوا الهدى، وآثروا الضلالة، جعلوا بمنزلة المشترين لها بالهدى، ثم رشح هذا المجاز بقوله تعالى: فما ربحت تجارتهم فأسند الربح إلى التجارة، والمعنى: فما ربحوا في تجارتهم، ونظير هذا الترشيح قول الآخر:


203 - بكى الخز من روح وأنكر جلده     وعجت عجيجا من جذام المطارف



لما أسند البكاء إلى الخز من أجل هذا الرجل وهو (روح) وإنكاره لجلده مجازا رشحه بقوله: "وعجت المطارف من جذام" أي: استغاثت الثياب من هذه القبيلة، وقول الآخر:


204 - ولما رأيت النسر عز ابن داية     وعشش في وكريه جاش له صدري



لما جعل النسر عبارة عن الشيب، وابن داية وهو الغراب عبارة عن الشباب مجازا رشحه بقوله: "وعشش في وكريه"، وقول الآخر:


205 - فما أم الردين وإن أدلت     بعالمة بأخلاق الكرام
إذا الشيطان قصع في قفاها     تنقفناه بالحبل التؤام

لما قال: "قصع في قفاها" أي دخل من القاصعاء وهي جحر من جحرة [ ص: 154 ] اليربوع رشحه بقوله: "تنقفناه" أي: أخرجناه من النافقاء، وهي - أيضا - من جحرة اليربوع.

قوله تعالى: وما كانوا مهتدين هذه الجملة معطوفة على قوله: فما ربحت تجارتهم والربح: الزيادة على رأس المال، والمهتدي: اسم فاعل من اهتدى، وافتعل هنا للمطاوعة، ولا يكون افتعل للمطاوعة إلا من فعل متعد.

وزعم بعضهم أنه يجيء من اللازم، واستدل على ذلك بقول الشاعر:


206 - حتى إذا اشتال سهيل في السحر     كشعلة القابس ترمي بالشرر



قال: "فاشتال افتعل لمطاوعة "شال" وهو لازم"، وهذا وهم من هذا القائل؛ لأن افتعل هنا ليس للمطاوعة، بل بمعنى فعل المجرد.

التالي السابق


الخدمات العلمية