صفحة جزء
آ. (280) قوله تعالى: وإن كان ذو عسرة : في "كان" هذه وجهان، أحدهما: - وهو الأظهر - أنها تامة بمعنى حدث ووجد أي: وإن حدث ذو عسرة فتكتفي بفاعلها كسائر الأفعال، قيل: وأكثر ما تكون كذلك إذا كان مرفوعها نكرة نحو: "قد كان من مطر". والثاني: أنها الناقصة والخبر محذوف. قال أبو البقاء: "تقديره: وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق أو نحو ذلك" وهذا مذهب بعض الكوفيين في الآية، وقدر الخبر: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة. وقدره بعضهم: وإن كان ذو عسرة غريما.

[ ص: 644 ] قال الشيخ: "وحذف خبر كان" لا يجيزه أصحابنا لا اختصارا ولا اقتصارا، لعلة ذكروها في النحو. فإن قيل: أليس أن البصريين لما استدل عليهم الكوفيون في أن "ليس" تكون عاطفة بقوله:


1115 - ... ... ... ... إنما يجزي الفتى ليس الجمل



تأولوها على حذف الخبر. وأنشدوا شاهدا على حذف الخبر قوله:


1116 - ... ... ... ...     بغى جوارك حين ليس مجير



وإذا ثبت هذا ثبت في سائر الباب. فالجواب أن هذا مختص بليس، لأنها تشبه لا النافية، و "لا" يجوز حذف خبرها فكذا ما أشبهها"، والعلة التي أشار إليها الشيخ هي أن الخبر تأكد طلبه من وجهين: أحدهما: كونه خبرا عن مخبر عنه، والثاني: كونه معمولا للفعل قبله، فلما تأكدت مطلوبيته امتنع حذفه.

وتقوى الكوفيون بقراءة عبد الله وأبي وعثمان: "وإن كان ذا عسرة" أي: وإن كان الغريم ذا عسرة. قال أبو علي: "في "كان" اسمها ضميرا [ ص: 645 ] تقديره: هو، أي الغريم، يدل على إضماره ما تقدم من الكلام، لأن المرابي لا بد له ممن يرابيه".

وقرأ الأعمش: "وإن كان معسرا" قال الداني عن أحمد بن موسى: "إنها في مصحف عبد الله كذلك".

ولكن الجمهور على ترجيح قراءة العامة وتخريجهم القراءة المشهورة. قال مكي: "وإن وقع ذو عسرة، وهو سائغ في كل الناس، ولو نصبت "ذا" على خبر "كان" لصار مخصوصا في ناس بأعيانهم، فلهذه العلة أجمع القراء المشهورون على رفع "ذو". وقد أوضح الواحدي هذا فقال: "أي: وإن وقع ذو عسرة، والمعنى على هذا يصح، وذلك أنه لو نصب فقيل: وإن كان ذا عسرة لكان المعنى: وإن كان المشتري ذا عسرة فنظرة، فتكون النظرة مقصورة عليه، وليس الأمر كذلك، لأن المشتري وغيره إذا كان ذا عسرة فله النظرة إلى الميسرة". وقال الشيخ: "من نصب "ذا عسرة" أو قرأ "معسرا" فقيل: يختص بأهل الربا، ومن رفع فهو عام في جميع من عليه دين، قال: "وليس بلازم، لأن الآية إنما سيقت في أهل الربا وفيهم نزلت" قلت: وهذا الجواب لا يجدي، لأنه وإن كان السياق كذا فالحكم ليس خاصا بهم. والعسرة بمعنى العسر.

قوله: "فنظرة" الفاء جواب الشرط و "نظرة" خبر مبتدأ محذوف، أي: فالأمر أو فالواجب، أو مبتدأ خبره محذوف، أي: فعليكم نظرة، أو فاعل بفعل مضمر، أي: فتجب نظرة.

[ ص: 646 ] وقرأ العامة: "نظرة" بزنة "نبقة". وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء: "فنظرة" بتسكين العين، وهي لغة تميمية يقولون: "كبد" في "كبد" و "كتف" في "كتف". وقرأ عطاء "فناظرة" على فاعلة، وقد خرجها أبو إسحاق على أنها مصدر نحو: "ليس لوقعتها كاذبة"" يعلم خائنة الأعين"" أن يفعل بها فاقرة". وقال الزمخشري "فناظره أي فصاحب الحق ناظره أي: منتظره، أو صاحب نظرته على طريقة النسب، كقولهم: "مكان عاشب وباقل" بمعنى ذو عشب وذو بقل، وعنه: "فناظره" على الأمر بمعنى: فسامحه بالنظرة وباشره بها" فنقله عنه القراءة الأولى يقتضي أن تكون قراءته "ناظر" اسم فاعل مضافا لضمير ذي العسرة بخلاف القراءة التي قدمتها عن عطاء، فإنها "ناظرة" بتاء التأنيث، ولذلك خرجها الزجاج على المصدر. وقرأ عبد الله، "فناظروه" أمرا للجماعة بالنظرة، فهذه ست قراءات مشهورها واحد.

وهذه الجملة لفظها خبر ومعناها الأمر، كقوله: "والوالدات يرضعن" وقد تقدم. والنظرة من الانتظار وهو الصبر والإمهال.

قوله: "إلى ميسرة" قرأ نافع وحده: "ميسرة" بضم السين، والباقون [ ص: 647 ] بفتحها. والفتح هو المشهور إذ مفعل ومفعلة بالفتح كثير، ومفعل بالضم معدوم إلا عند الكسائي، وسأورد منه ألفاظا، وأما مفعلة فقالوا: قليل جدا وهي لغة الحجاز، وقد جاءت منها ألفاظ نحو: المسرقة والمقبرة والمشربة، والمسربة والمقدرة والمأدبة والمفخرة والمزرعة ومعولة ومكرمة ومألكة.

وقد رد النحاس الضم تجرؤا منه، وقال: "لم تأت مفعلة إلا في حروف معدودة ليس هذه منها، وأيضا فإن الهاء زائدة ولم يأت في كلامه مفعل البتة" انتهى. وقال سيبويه: "ليس في الكلام مفعل" قال أبو علي: "يعني في الآحاد". وقد حكى عن سيبويه "مهلك" مثلث اللام. وقال الكسائي: "مفعل" في الآحاد، وأورد منه: مكرما في قول الشاعر:


1117 - ليوم روع أو فعال مكرم      ... ... ... ...



ومعون في قول الآخر - هو جميل -:


1118 - بثين الزمي "لا" إن لا إن لزمته     على كثرة الواشين أي معون

[ ص: 648 ] ومألكا في قول عدي:


1119 - أبلغ النعمان عني مألكا     أنه قد طال حبسي وانتظاري

وهذا لا يرد على سيبويه لوجهين، أحدهما: أن هذا جمع لمكرمة ومعونة ومألكة، وإليه ذهب البصريون والكوفيون خلا الكسائي، ونقل عن الفراء أيضا. والثاني: أن سيبويه لا يعتد بالقليل فيقول: "لم يرد كذا" وإن كان قد ورد منه الحرف والحرفان، لعدم اعتداده بالنادر القليل.

وإذا تقرر هذا فقد خطأ النحويون مجاهدا وعطاء في قراءتهما: "إلى ميسره" بإضافة "ميسر" مضموم السين إلى ضمير الغريم، لأنهم بنوه على أنه ليس في الآحاد مفعل، ولا ينبغي أن يكون هذا خطأ، لأنه على تقدير تسليم أن مفعلا ليس في الآحاد، فميسر هنا ليس واحدا، إنما هو جمع ميسرة كما قلتم أنتم: إن مكرما جمع مكرمة ونحوه، أو يكون قد حذف تاء التأنيث للإضافة كقوله:


1120 - إن الخليط أجدوا البين فانجردوا     وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا

أي: عدة الأمر، ويدل على ذلك أنهم نقلوا عنهما أنهما قرآ أيضا: "إلى ميسره" بفتح السين مضافا لضمير الغريم، وهذه القراءة نص فيما ذكرته لك من حذف تاء التأنيث للإضافة لتوافق قراءة العامة: "إلى ميسرة" بتاء التأنيث.

[ ص: 649 ] وقد خرجها أبو البقاء على وجه آخر، وهو أن يكون الأصل: "ميسوره" فخفف بحذف الواو اكتفاء بدلالة الضمة عليها، وقد يتأيد ما ذكره على ضعفه بقراءة عبد الله، فإنه قرأ: إلى "ميسوره" بإضافة "ميسور" للضمير، وهو مصدر على مفعول كالمجلود والمعقول، وهذا إنما يتمشى على رأي الأخفش، إذ أثبت من المصادر زنة مفعول، ولم يثبته سيبويه.

قوله: "وأن تصدقوا" قرأ عاصم بتخفيف الصاد، والباقون بتثقيلها. وأصل القراءتين واحد، إذ الأصل: تتصدقوا، فحذف عاصم إحدى التاءين: إما الأولى وإما الثانية، وتقدم تحقيق الخلاف فيه، وغيره أدغم التاء في الصاد، وبهذا الأصل قرأ عبد الله: "تتصدقوا". وحذف مفعول التصدق للعلم به، أي: بالإنظار. وقيل: برأس المال على الغريم. و "إن كنتم تعلمون" جوابه محذوف. و وأن تصدقوا" بتأويل مصدر مبتدأ، و "خير لكم" خبره.

التالي السابق


الخدمات العلمية