صفحة جزء
[ ص: 15 ] آ . (3) قوله تعالى : نزل عليك الكتاب : العامة على التشديد في "نزل " ونصب "الكتاب " . وقرأ الأعمش والنخعي وابن أبي عبلة : نزل بتخفيف الزاي ورفع الكتاب ، فأما القراءة الأولى فقد تقدم أن هذه الجملة يحتمل أن تكون خبرا وأن تكون مستأنفة . وأما القراءة الثانية فالظاهر أن الجملة فيها مستأنفة ، ويجوز أن تكون خبرا ، والعائد حينئذ محذوف ، تقديره : نزل الكتاب من عنده .

قوله : " بالحق " فيه وجهان ، أحدهما : أن تتعلق الباء بالفعل قبلها والباء حينئذ للسببية ، أي : نزله بسبب الحق . والثاني : أن تتعلق بمحذوف على أنها حال : إما من الفاعل أي : نزله محقا ، أو من المفعول أي : نزله ملتبسا بالحق نحو : جاء بكر بثيابه أي : ملتبسا بها .

وقال مكي : "ولا تتعلق الباء بنزل لأنه قد تعدى إلى مفعولين ، أحدهما بحرف فلا يتعدى إلى ثالث " وهذا الذي ذكره مكي غير ظاهر ، فإن الفعل يتعدى إلى متعلقاته بحروف مختلفة على حسب ما يكون ، وقد تقدم أن معنى الباء السببية ، فأي مانع يمنع من ذلك ؟ .

قوله : مصدقا فيه أوجه ، أحدهما : أن ينتصب على الحال من "الكتاب " ، فإن قيل إن "بالحق " حال كانت هذه حالا ثانية عند من يجيز تعدد الحال ، وإن لم يقل ذلك كانت حالا أولى . والثاني : أن ينتصب على الحال على سبيل البدلية من محل "بالحق " وذلك عند من يمنع تعدد الحال في غير عطف ولا بدلية . الثالث : أن ينتصب على الحال من الضمير المستكن في "بالحق " إذا جعلناه حالا ، لأنه حينئذ يتحمل ضميرا لقيامه مقام الحال التي [ ص: 16 ] تتحمله ، وتكون حالا متداخلة أي : إنها حال من حال ، وعلى هذه الأقوال كلها فهي حال مؤكدة ، لأنه لا يكون إلا كذلك ، فالانتقال غير متصور فيه ، وهو نظير قوله :


1158 - أنا ابن دارة معروفا بها نسبي وهل بدارة يا للناس من عار



قوله : لما بين يديه مفعول لمصدقا ، وزيدت اللام في المفعول تقوية للعامل لأنه فرع ، إذ هو اسم فاعل كقوله تعالى : فعال لما يريد وإنما ادعينا ذلك لأن هذه المادة متعدية بنفسها .

قوله : التوراة والإنجيل اختلف الناس في هاتين اللفظتين : هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف أم لا يدخلانهما لكونهما أعجميين ؟ فذهب جماعة كالزمخشري وغيره إلى الثاني . قالوا : لأن هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين . قال الزمخشري : "وتكلف اشتقاقهما من الورى والنجل ، ووزنهما بتفعلة وإفعيل إنما يثبت بعد كونهما عربيين " . [قال الشيخ : "وكلامه صحيح ، إلا أن فيه استدراكا وهو قوله : تفعلة ، ولم يذكر مذهب البصريين ] وهو أن وزنها فوعلة ، ولم ينبه على تفعلة : هل هي بكسر العين أو فتحها " قلت : لم يحتج إلى التنبيه لشهرتهما ، وإنما ذكر المستغرب . ويؤيد ما قاله الزمخشري من كونها أعجمية ما نقله الواحدي ، [ ص: 17 ] وهو أن التوراة والإنجيل والزبور سريانية فعربوها قال : "ولذلك يقولون فيها بالسريانية : توري إيكليون زفوتا " فعربوها إلى ما ترى .

ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا : فقال بعضهم : التوراة مشتقة من قولهم : وري الزند إذا قدح فظهر منه نار . يقال "وري الزند " و "أوريته أنا " . قال تعالى : أفرأيتم النار التي تورون فثلاثيه قاصر ورباعية متعد . وقال تعالى : فالموريات قدحا ، ويقال أيضا : "وريت بك زنادي " فاستعمل الثلاثي متعديا ، إلا أن المازني يزعم أنه لا يتجاوز به هذا اللفظ ، يعني فلا يقاس عليه ، فيقال : "وريت النار " مثلا . إذا تقرر ذلك فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور يخرج به من الضلال [إلى ] الهدى ، كما يخرج بالنور من الظلام إلى النور سمي هذا الكتاب بالتوراة ، وهذا هو قول الفراء ، وهو مذهب جمهور الناس .

وقال آخرون : بل هي مشتقة من "وريت في كلامي " من التورية وهي التعريض . وفي الحديث : "كان إذا أراد سفرا ورى بغيره " وسميت التوراة بذلك لأن أكثرها تلويحات ومعاريض ، وإلى هذا ذهب المؤرج السدوسي وجماعة .

وفي وزنها ثلاثة أقوال أحدها : وهو قول الخليل وسيبويه أن [ ص: 18 ] وزنها فوعلة ، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو : الدوخلة والقوصرة والدوسرة والصومعة ، والأصل : وورية بواوين ، لأنها إما من وري الزند ، وإما من وريت في كلامي ، فأبدلت الواو الأولى تاء وتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فصار اللفظ : توراة كما ترى ، وكتبت بالياء منبهة على الأصل ، كما أميلت لذلك ، وقد أبدلت العرب التاء من الواو في ألفاظ نحو : تولج وتيقور وتخمة وتكأة وتراث وتجاه وتكلان من : الولوج والوقار والوخامة والوكاء والوراثة والوجه والوكالة . ونظير إبدال الواو تاء في التوراة إبدالها أيضا في قولهم لما تراه المرأة في الطهر بعد الحيض : "الترية " هي فعيلة من لفظ الوراء لأنها ترى بعد الصفرة والكدرة .

الثاني : - وهو قول الفراء - أن وزنها تفعلة بكسر العين ، فأبدلت الكسرة فتحة ، وهي لغة طائية ، يقولون في الناصية : ناصاة ، وفي بقي : بقى قال الشاعر :


1159 - ... ... ... ...     بحرب كناصاة الأغر المشهر



وقال آخر :


1160 - ... ... ... ... [ ص: 19 ]     نفوسا بنت على الكرم



وأنشد الفراء :


1161 - وما الدنيا بباقاة علينا     وما حي على الدنيا بباق



وقد رد البصريون ذلك بوجهين ، أحدهما : أن هذا البناء قليل جدا - أعني بناء تفعلة - بخلاف فوعلة فإنه كثير ، فالحمل على الأكثر أولى . والثاني : أنه يلزم منه زيادة التاء أولا والتاء لم تزد أولا إلا في مواضع ليس هذا منها بخلاف قلبها في أول الكلمة فإنه ثابت ، وذلك أن الواو إذا وقعت أولا قلبت : إما همزة نحو : أجوه وأقتت وأحد وأناة وإشاح وإعاء في : وجوه ووقتت ووحد ووناة ووشاح ووعاء ، وإما تاء نحو : تجاه وتخمة ... إلخ ، فاتباع ما عهد أولى من اتباع ما لم يعهد .

الثالث : أن وزنها تفعلة بفتح العين وهو مذهب الكوفيين ، كما يقولون في : تتفلة بالضم تتفلة بالفتح ، وهذا لا حاجة إليه وهو أيضا دعوى لا دليل عليها .

وأمال التوراة حيث وردت في القرآن إمالة محضة أبو عمرو والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان ، وأمالها بين بين حمزة وورش عن نافع ، واختلف عن قالون : فروي عنه بين بين والفتح ، وقرأها الباقون بالفتح فقط . ووجه الإمالة إن قلنا بأن ألفها منقلبة عن ياء ظاهر ، وإن قلنا إنها أعجمية لا اشتقاق لها فوجه الإمالة شبه ألفها لألف التأنيث من حيث وقوعها رابعة فسبب إمالتها : إما الانقلاب وإما شبه ألف التأنيث .

[ ص: 20 ] والإنجيل : قيل : إفعيل كإجفيل . وفي وزنه أقوال ، أحدها : أنه مشتق من النجل وهو الماء الذي ينز من الأرض ويخرج منها ، ومنه : النجل للولد ، وسمي الإنجيل لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ . وقيل : من النجل وهو الأصل ، ومنه "النجل " للوالد فهو من الأضداد ، إذ يطلق على الولد والوالد ، قال الأعشى :


1162 - أنجب أيام والداه به     إذ نجلاه فنعم ما نجلا



وقيل : من النجل وهو التوسعة ، ومنه : العين النجلاء لسعتها ، وسمي الإنجيل بذلك ؛ لأن فيه توسعة لم تكن في التوراة ، إذ حلل فيه أشياء كانت محرمة .

وقيل : هو مشتق من التناجل وهو التنازع ، يقال : تناجل الناس أي : تنازعوا ، وسمي الإنجيل بذلك لاختلاف الناس فيه قاله أبو عمرو الشيباني .

والعامة على كسر الهمزة من "إنجيل " . وقرأ الحسن بفتحها . قال الزمخشري : "وهذا يدل على أنه أعجمي لأن " أفعيلا "بفتح الهمزة عديم في أوزان العرب " . قلت : بخلاف إفعيل بكسرها فإنه موجود نحو : إجفيل وإخريط وإصليت .

[ ص: 21 ] وفرق الزمخشري بين "نزل " و "أنزل " على عادته فقال : "فإن قلت : لم قيل : نزل الكتاب ، وأنزل التوراة والإنجيل ؟ قلت : لأن القرآن نزل منجما ونزل الكتابان جملة " . قال الشيخ : "قد تقدم الرد على هذا القول في البقرة ، وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير ولا على التنجيم ، وقد جاء في القرآن : أنزل ونزل ، قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر و نزل عليك الكتاب ويدل على أنهما بمعنى واحد قراءة من قرأ ما كان من " ينزل "مشددا بالتخفيف إلا ما استثني ، ولو كان أحدهما يدل على التنجيم والآخر على النزول دفعة واحدة لتناقض الإخبار وهو محال " . قلت : وقد سبق الزمخشري إلى هذا الفرق بعينه الواحدي .

التالي السابق


الخدمات العلمية