صفحة جزء
آ . (14) قوله تعالى : زين للناس : العامة على بنائه للمفعول ، والفاعل المحذوف هو الله تعالى ؛ لما ركب في طباع البشر من حب هذه الأشياء ، وقيل : هو الشيطان ، عن الحسن : "من زينها ؟ إنما زينها الشيطان لأنه لا أحد أبغض لها من خالقها " .

وقرأ مجاهد : "زين " مبنيا للفاعل ، "حب " مفعول به نصا ، والفاعل : إما ضمير الله تعالى لتقدم ذكره الشريف في قوله تعالى : والله يؤيد [ ص: 57 ] بنصره ، وإما ضمير الشيطان ، أضمر وإن لم يجر له ذكر ، لأنه أصل ذلك ، فذكر هذه الأشياء مؤذن بذكره . وأضاف المصدر لمفعوله في "حب الشهوات " .

والشهوات : جمع "شهوة " بسكون العين ، فحركت في الجمع ، ولا يجوز التسكين إلا في ضرورة كقوله :


1194 - وحملت زفرات الضحى فأطقتها ومالي بزفرات العشي يدان



بتسكين الفاء . والشهوة : مصدر يراد به اسم المفعول أي : المشتهيات فهو من باب : رجل عدل ، حيث جعلت نفس المصدر مبالغة ، والشهوة : ميل النفس ، ويجمع على "شهوات " ، كالآية الكريمة ، وعلى "شهى " كغرف ، قالت امرأة من بني نضر بن معاوية :


1195 - فلولا الشهى والله كنت جديرة     بأن أترك اللذات في كل مشهد



وقال النحويون : لا تجمع فعلة المعتلة اللام - يعنون بفتح الفاء وسكون العين - [على فعل ] إلا ثلاثة ألفاظ : كوة وكوى - فيمن فتح كاف "كوة " - وقرية وقرى ونزوة ونزى ، واستدرك الشيخ عليهم هذه اللفظة أيضا فيكن أربعة وأنشد البيت . وقال الراغب : "وقد يسمى المشتهى شهوة ، وقد [ ص: 58 ] يقال للقوة التي بها تشتهي الشيء شهوة ، وقوله تعالى : زين للناس حب الشهوات يحتمل الشهوتين .

قوله : من النساء في محل نصب على الحال من " الشهوات "والتقدير : حال كون الشهوات من كذا وكذا فهي مفسرة لها في المعنى ، ويجوز أن تكون " من "لبيان الجنس ، ويدل عليه قول الزمخشري : " ثم يفسره بهذه الأجناس " .

قوله : والقناطير جمع قنطار . وفي نونه قولان أحدهما : - وهو قول جماعة - أنها أصلية ، وأن وزنها فعلال كحملاق وقرطاس . والثاني أنها زائدة ووزنه فنعال كقنعاس - وهو الجمل الشديد - ، قيل : واشتقاقه من : قطر يقطر إذا سال ، لأن الذهب والفضة يشبهان بالماء في سرعة الانقلاب وكثرة التقلب . وقال الزجاج : " هو مأخوذ من قنطرت الشيء إذا عقدته وأحكمته ، ومنه : القنطرة لإحكام عقدها " .

قوله : من الذهب كقوله : " من النساء "وقد تقدم . والذهب مؤنث ، ولذلك يصغر على " ذهيبة " ، ويجمع على ذهاب وذهوب . وقيل : " الذهب "جمع في المعنى لـ " ذهبة " ، واشتقاقه من الذهاب . الفضة يجمع على فضض . واشتقاقها من انفض الشيء إذا تفرق ، ويقال : "رجل ذهب " بكسر الهاء ، أي : رأى معدن الذهب فدهش .

قوله : والخيل عطف على "النساء " قال أبو البقاء : "لا على الذهب والفضة لأنها لا تسمى قنطارا " ، وتوهم مثل ذلك بعيد جدا فلا حاجة إلى التنبيه عليه .

[ ص: 59 ] والخيل فيه قولان ، أحدهما أنه جمع ولا واحد له من لفظه بل مفرده "فرس " فهو نظير : قوم ورهط ونساء . والثاني : أن واحده "خايل " فهو نظير راكب وركب ، وتاجر وتجر ، وطائر وطير ، وفي هذا خلاف بين سيبويه والأخفش ، فسيبويه يجعله اسم جمع ، والأخفش يجعله جمع تكسير . وفي اشتقاقها وجهان ، أحدهما : من الاختيال وهو العجب ، سميت بذلك لاختيالها في مشيتها وطول أذنابها . قال امرؤ القيس :


1196 - لها ذنب مثل ذيل العرو     س تسد به فرجها من دبر



والثاني : من التخيل ، قيل : لأنها تتخيل في صورة من هو أعظم منها .

وقيل : أصل الاختيال من التخيل ، وهو التشبه بالشيء ؛ لأن المختال يتخيل في صورة من هو أعظم منه كبرا ، والأخيل : الشقراق لأنه يتغير لونه بحسب [المقام ] مرة أحمر ، ومرة أخضر ، ومرة أصفر ، وعليه قوله :


1197 - كأبي براقش كل لو     ن لونه يتخيل



وجوز بعضهم أن يكون مخففا من "خيل " بتشديد الياء نحو : "ميت " في ميت ، و "هين " في هين . وفيه نظر لأن كل ما سمع فيه التخفيف سمع [التثقيل ، وهذا لم يسمع إلا مخففا ، وقد تقدم نظير ] هذا البحث في لفظ "الغيب " .

[ ص: 60 ] وقال الراغب : "الخيل في الأصل للأفراس والفرسان جميعا ، قال تعالى : ومن رباط الخيل ، ويستعمل في كل واحد منهما منفردا ، نحو ما روي : " يا خيل الله اركبي "فهذا للفرسان ، وقوله عليه السلام : " عفوت لكم عن صدقة الخيل "يعني الأفراس وفيه نظر ؛ لأن أهل اللغة نصوا على أن قوله عليه السلام : " يا خيل الله اركبي " : إما مجاز إضمار ، وإما مجاز علاقة ، ولو كان للفرسان بطريق الحقيقة لما ساغ قولهم ذلك .

قوله : المسومة أصل التسويم : التعليم ، ومعنى مسومة : معلمة إما بالكي وإما بالبلق كما جاء ذلك في التفسير . وقيل : بل هو من سوم ماشيته أي : رعاها ، فمعنى مسومة أي : مرعية ، يقال : " أسمت ماشيتي فسامت " ، قال تعالى : فيه تسيمون ، وسومتها فاستامت ، فيكون الفعل عدي تارة بالهمزة وتارة بالتضعيف . وقيل : بل هو من السيمياء وهي الحسن ، فمعنى مسومة أي : ذات حسن ، قاله عكرمة واختاره النحاس ، قال : " لأنه من الوسم " . وقد رد عليه بعضهم باختلاف المادتين . قد أجاب بعضهم عنه بأنه من باب المقلوب فيصح ما قاله . وقد تقدم تحقيق ذلك في قوله يسومونكم وقوله تعالى : بسيماهم .

[ ص: 61 ] قوله : والأنعام هي جمع نعم ، والنعم مختصة بثلاثة أنواع : الإبل والبقر والغنم وقال الهروي : النعم تذكر وتؤنث ، وإذا جمع انطلق على الإبل والبقر والغنم " . وظاهر هذا أنه قبل جمعه على " أنعام "لا يطلق على الثلاثة الأنواع ، بل يختص بواحد منها ، وهذا الظاهر الذي أشرت إليه قد صرح به الفراء فقال : " النعم الإبل فقط ، وهو مذكر ولا يؤنث تقول : "هذا نعم وارد ، وهو جمع لا واحد له من لفظه " وقال ابن قتيبة : "الأنعام : الإبل والبقر والغنم ، واحده نعم ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، سميت بذلك لنعومة مشيها ولينها " ، وعلى الجملة فالاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدا .

قوله : والحرث قد تقدم تفسيره ، وهو هنا مصدر واقع موقع المفعول به ، فلذلك وحد ولم يجمع كما جمعت أخواته . ويجوز إدغام الثاء في الذال وإن كان بعض الناس ضعفه بأنه يلزم الجمع بين ساكنين والأول ليس حرف لين ، قال : "بخلاف " يلهث ذلك "حيث أدغم الثاء في الذال لانتفاء التقاء الساكنين ، إذ الهاء قبل الثاء متحركة " .

وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أنواعا من الفصاحة والبلاغة فمنها : الإتيان بها مجملة ، ومنها : جعله لها نفس الشهوات مبالغة في التنفير عنها ، ومنها : البداءة بالأهم فالأهم ، فقدم أولا النساء لأنهن أكثر امتزاجا ومخالطة بالإنسان ، وهن حبائل الشيطان ، قال عليه السلام : " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل منكن " ويروى : "الحازم منكن " . وقيل : "فيهن فتنتان ، وفي البنين [ ص: 62 ] فتنة واحدة ؛ وذلك أنهن يقطعن الأرحام والصلات بين الأهل غالبا وهن سبب في جمع المال من حلال وحرام غالبا ، والأولاد يجمع لأجلهم المال ، فلذلك ثنى بالبنين ، وفي الحديث : " الولد مبخلة مجبنة " ، ولأنهم فروع منهن وثمرات نشأن عنهن ، وفي كلامهم : " المرء مفتون بولده " . وقدمت على الأموال لأنها أحب إلى المرء من ماله ، وأما تقديم المال على الولد في بعض المواضع فإنما ذلك في سياق امتنان وإنعام أو نصرة ومعاونة وغلبة ، لأن الرجال تستمال بالأموال ، ثم أتى بذكر تمام اللذة وهو المركوب البهي من بين سائر الحيوانات ، ثم أتى بذكر ما يحصل به جمال حين تريحون وحين تسرحون ، كما تشهد به الآية الأخرى ، ثم ذكر ما به قوامهم وحياة بنيهم وهو الزروع والثمار ، ويشمل الفواكه أيضا ، ومنها : الإتيان بلفظ يشعر بشدة حب هذه الأشياء حيث قال : " زين " ، والزينة محبوبة في الطباع .

ومنها : بناء الفعل للمفعول ؛ لأن الغرض الإعلام بحصول ذلك . ومنها : إضافة الحب للشهوات ، والشهوات هي الميل والنزوع إلى الشيء . ومنها التجنيس : "القناطير المقنطرة " . ومنها : الجمع بين ما يشبه المطابقة في قوله : "والذهب والفضة " لأنهما صارا متقابلين في غالب العرف . ومنها : وصف القناطير بالمقنطرة الدالة على تكثيرها مع كثرتها في ذاتها . ومنها : ذكر هذا الجنس بمادة الخيل لما في اللفظ من الدلالة على تحسينه ، ولم يقل : الأفراس ، وكذا قوله : "والأنعام " ولم يقل الإبل والبقر والغنم ، ولأنه أخصر .

قوله : ذلك متاع الإشارة بـ "ذلك " للمذكور المتقدم ، فلذلك وحد اسم [ ص: 63 ] الإشارة ، والمشار إليه متعدد كقوله تعالى : عوان بين ذلك ، وقد تقدم شيئان .

قوله : المآب هو مفعل من : آب يؤوب أي رجع ، والأصل : مأوب فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها ، فقلبت الواو ألفا ، وهو هنا اسم مصدر أي : حسن الرجوع ، وقد يقع اسم مكان أو زمان ، تقول : آب يؤوب أوبا وإيابا ومآبا ، فالأوب والإياب مصدران والمآب اسم لهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية