صفحة جزء
آ . (15) قوله تعالى : قل أأنبئكم : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين ، على ما عرف من قواعدهم في أول البقرة ، والباقون بالتخفيف فيهما . ومد بين هاتين الهمزتين بلا خلاف قالون عن نافع ، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر بخلاف عنهما ، والباقون بغير مد ، وهم على أصولهم من تحقيق وتسهيل ، وورش على أصله من نقل حركة الهمزة إلى لام "قل " .

واعلم أنه لا بد من ذكر اختلاف القراء في هذه اللفظة وشبهها وتحرير مذاهبهم فإنه موضع عسر الضبط فأقول بعون الله تعالى : الوارد من ذلك القرآن الكريم ثلاثة مواضع : أعني همزتين أولاهما مفتوحة والثانية مضمومة من كلمة واحدة ، الأول هذا الموضع ، والثاني في ص : أأنزل عليه الذكر من بيننا ، الثالث في القمر : أألقي الذكر عليه . والقراء فيها على خمس مراتب ، إحداها : مرتبة قالون ، وهي تسهيل الثانية بين بين ، وإدخال ألف بين الهمزتين بلا خلاف كذا رواه عن نافع . الثانية : مرتبة ورش وابن كثير ، وهي [ ص: 64 ] تسهيل الثانية أيضا بين بين من غير إدخال ألف بين الهمزتين بلا خلاف كذا روى ورش عن نافع . الثالثة : مرتبة الكوفيين وابن ذكوان عن ابن عامر وهي تحقيق الثانية من غير إدخال ألف بلا خلاف ، كذا روى ابن ذكوان عن ابن عامر . الرابعة : مرتبة هشام ، وهي أنه روي عنه ثلاثة أوجه : الأول التحقيق وعدم إدخال ألف بين الهمزتين في ثلاث السور . الوجه الثاني : التحقيق وإدخال ألف بينهما في ثلاث السور . والوجه الثالث : التفرقة بين السور الثلاث ، وهو أنه يحقق ويقصر في هذه السورة ، ويسهل ويمد في السورتين الأخريين . الخامسة : مرتبة أبي عمرو وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه . واجتزأت عن تعليل التخفيف والمد والقصر واعزا كل واحد منها إلى لغة من تكلم به بما قدمته في أول البقرة ، ولله الحمد .

ونقل أبو البقاء أنه قرئ : "أونبئكم " بواو خالصة بعد الهمزة لانضمامها ، وليس ذلك بالوجه . وفي قوله "أؤنبئكم " التفات من الغيبة في قوله : "للناس " إلى الخطاب تشريفا لهم .

قوله : بخير متعلق بالفعل ، وهذا الفعل لما لم يضمن معنى "أعلم " تعدى لاثنين ، الأول تعدى إليه بنفسه وإلى الثاني بالحرف ، ولو ضمن معناها لتعدى إلى ثلاثة .

و من ذلكم متعلق بخير ؛ لأنه على بابه من كونه أفعل تفضيل ، والإشارة بذلكم إلى ما تقدم من ذكر الشهوات ، وتقدم تسويغ الإشارة بالمفرد إلى الجمع . ولا يجوز أن تكون "خير " ليست للتفضيل ، ويكون المراد به خيرا من الخيور ، وتكون "من " صفة لقوله : "خير " . قال أبو البقاء : "من " في [ ص: 65 ] موضع نصب بخير تقديره : بما يفضل ذلك ، ولا يجوز أن تكون صفة لخير ؛ لأن ذلك يوجب أن تكون الجنة وما فيها مما رغبوا فيه بعضا لما زهدوا فيه من الأموال ونحوها "وتابعه على ذلك الشيخ " .

قوله : للذين اتقوا [يجوز فيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه متعلق بخير ، ويكون الكلام قد تم هنا ] ويرتفع "جنات " على خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو جنات ، أي : ذلك الذي هو خير مما تقدم جنات ، والجملة بيان وتفسير للخيرية ، ومثله : قل أفأنبئكم بشر من ذلكم ثم قال : النار وعدها الله الذين كفروا ، ويؤيد ذلك قراءة "جنات " بكسر التاء على أنها بدل من "بخير " فهي بيان للخير . والثاني : أن الجار خبر مقدم ، و "جنات " مبتدأ مؤخر ، أو يكون "جنات " فاعلا بالجار قبله ، وإن لم يعتمد عند من يرى ذلك . وعلى هذين التقديرين فالكلام تم عند قوله : "من ذلكم " ، ثم ابتدأ بهذه الجملة وهي أيضا مبينة ومفسرة للخيرية .

وأما الوجهان الآخران فذكرهما مكي مع جر "جنات " ، يعني أنه لم يجز الوجهين ، إلا إذا جررت "جنات " بدلا من "بخير " . الوجه الأول : أنه متعلق بأؤنبئكم . الوجه الثاني : أنه صفة لخير . ولا بد من إيراد نصه فإن فيه إشكالا .

قال رحمه الله : - بعد أن ذكر أن "للذين " خبر مقدم و "جنات " مبتدأ - "ويجوز الخفض في " جنات "على البدل من " بخير "على أن تجعل اللام في " للذين "متعلقة بأؤنبئكم ، أو تجعلها صفة لخير ، ولو جعلت اللام متعلقة [ ص: 66 ] بمحذوف قامت مقامه لم يجز خفض " جنات " ؛ لأن حروف الجر والظروف إذا تعلقت بمحذوف ، وقامت مقامه صار فيها ضمير مقدر مرفوع ، واحتاجت إلى ابتداء يعود إليه ذلك الضمير كقولك : " لزيد مال ، وفي الدار رجل وخلفك عمرو "فلا بد من رفع " جنات "إذا تعلقت اللام بمحذوف ، ولو تعلقت بمحذوف على أن لا ضمير فيها لرفعت " جنات "بفعلها ، وهو مذهب الأخفش في رفعه ما بعد الظروف وحروف الخفض بالاستقرار ، وإنما يحسن ذلك عند حذاق النحويين إذا كانت الظروف أو حروف الخفض صفة لما قبلها ، فحينئذ يتمكن ويحسن رفع الاسم بالاستقرار ، وقد شرحنا لك وبيناه في أمثلة ، وكذلك إذا كانت أحوالا [مما قبلها ] " . انتهى فقد جوز تعلق هذه اللام بأونبئكم أو بمحذوف على أنها صفة لخير بشرط أن تجر "جنات " ، على البدل من "بخير " ، وظاهره أنه لا يجوز ذلك مع رفع "جنات " وعلل ذلك بأن حروف الجر تعلق بمحذوف وتحمل الضمير ، فوجب أن يؤتى له بمبتدأ وهو "جنات " ، وهذا الذي قاله من هذه الحيثية لا يلزم ، إذ لقائل أن يقول : أجوز تعليق اللام بما ذكرت من الوجهين مع رفع "جنات " على أنها خبر مبتدأ محذوف ، لا على الابتداء حتى يلزم ما ذكرت . ولكن الوجهان ضعيفان من جهة أخرى : وهو أن المعنى ليس واضحا على ما ذكر ، مع أن جعله أن اللام صفة لخير أقوى من جعلها متعلقة بأؤنبئكم إذ لا معنى له . وقوله : "في الظروف وحروف الجر أنها عند الحذاق إنما ترفع الفاعل إذا كانت صفات " وقوله : "وكذلك إذ كن أحوالا " فيه قصور ؛ لأن هذا الحكم مستقر لها في مواضع ، منها الموضعان اللذان ذكرهما . ثالثهما : أن يقعا صلة . رابعها : أن يقعا خبرا لمبتدأ . خامسها : أن يعتمدا على نفي . سادسها : أن يعتمدا على استفهام ، وقد تقدم تحرير هذا ، وإنما أعدته لبعد عهده .

قوله : عند ربهم فيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه في محل نصب على [ ص: 67 ] الحال من "جنات " لأنه في الأصل صفة لها ، فلما قدم نصب حالا . الثاني : أنه متعلق بما تعلق به "للذين " من الاستقرار إذا جعلناه خبرا أو رافعا لجنات بالفاعلية ، أما إذا علقته بـ "خير " أو بـ "أؤنبئكم " فلا ، لعدم تضمنه الاستقرار . الثالث : أن يكون معمولا لتجري ، وهذا لا يساعد عليه المعنى . الرابع : أنه متعلق بخير ، كما تعلق به "للذين " على قول تقدم . ويضعف أن يكون الكلام قد تم عند قوله "للذين اتقوا " ثم يبتدأ بقوله : عند ربهم جنات على الابتداء والخبر ، وتكون الجملة مبينة ومفسرة للخيرية كما تقدم في غيرها .

وقرأ يعقوب "جنات " بكسر التاء ، وفيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها بدل من لفظ "خير " فتكون مجرورة ، وهي بيان له كما تقدم . والثاني أنها بدل من محل "بخير " ومحله النصب ، وهو في المعنى كالأول . الثالث : أنه منصوب بإضمار أعني ، وهو نظير الوجه الصائر إلى رفعه على خبر ابتداء مضمر .

قوله : تجري صفة لجنات ، فهو في محل رفع أو نصب أو جر على حسب القراءتين والتخاريج فيهما . و من تحتها متعلق بتجري ، وجوز فيه أبو البقاء أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الأنهار قال : "أي : تجري الأنهار كائنة تحتها " ، وهذا يشبه تهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه .

قوله : خالدين حال مقدرة ، وصاحبها الضمير المستكن في "للذين " والعامل فيها حينئذ الاستقرار المقدر . وقال أبو البقاء : "إن شئت من الهاء في " تحتها " . وهذا الذي ذكره إنما يتمشى على مذهب الكوفيين ، وذلك أن [ ص: 68 ] جعلها حالا من " ها "في " تحتها "يؤدي إلى جريان الصفة على غير من هي له في المعنى ، لأن الخلود من أوصاف الداخلين في الجنة لا من أوصاف الجنة ، ولذلك جمع هذه الحال جمع العقلاء ، فكان ينبغي أن يؤتى بضمير مرفوع بارز ، هو الذي كان مستترا في الصفة ، نحو : " زيد هند ضاربها هو " ، والكوفيون يقولون : إن أمن اللبس كهذا لم يجب بروز الضمير ، وإلا يجب ، والبصريون لا يفرقون ، وتقدم البحث في ذلك .

قوله : وأزواج مطهرة ورضوان من رفع "جنات " كما هو المشهور كان عطف "أزواج " و "رضوان " سهلا . ومن كسر التاء فيجب حينئذ على قراءته أن يكون مرفوعا على أنه مبتدأ خبره مضمر ، تقديره : ولهم أزواج ولهم رضوان ، وتقدم الكلام على أزواج مطهرة في البقرة .

وفي "رضوان " لغتان : ضم الراء وهي لغة تميم ، والكسر وهي لغة الحجاز ، وبها قرأ العامة إلا أبا بكر عن عاصم فإنه قرأ بلغة تميم في جميع القرآن ، إلا في الثانية من سورة المائدة ، وهي : من اتبع رضوانه فبعضهم نقل عنه الجزم بكسرها ، وبعضهم نقل عنه الخلاف فيها خاصة .

وهل هما بمعنى واحد أو بينهما فرق ؟ قولان ، أحدهما : أنهما مصدران بمعنى واحد لرضي يرضى . والثاني : أن المكسور اسم ومنه : رضوان خازن الجنة صلى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته ، والمضموم هو المصدر . و "من الله " صفة لرضوان .

التالي السابق


الخدمات العلمية