صفحة جزء
آ . (26) قوله تعالى : اللهم : اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظة الكريمة . فقال البصريون : الأصل يا الله ، فحذف حرف النداء ، وعوض عنه هذه الميم المشددة . وهذا خاص بهذا الاسم الشريف فلا يجوز تعويض الميم من حرف النداء في غيره ، واستدلوا على أنها عوض من "يا " أنهم لم يجمعوا بينهما فلا يقال : يا اللهم إلا في ضرورة كقوله :

[ ص: 98 ]

1212 - وما عليك أن تقولي كلما سبحت أو هللت يا اللهم ما     أردد علينا شيخنا مسلما



وقال الكوفيون : الميم المشددة بقية فعل محذوف تقديره : "أمنا بخير " أي : اقصدنا به ، من قولك : "أممت زيدا " أي قصدته ، ومنه : ولا آمين البيت الحرام أي : قاصديه ، وعلى هذا فالجمع بين "يا " والميم ليس بضرورة عندهم ، إذ ليست عوضا منها . وقد رد عليهم البصريون هذا بأنه قد سمع "اللهم أمنا بخير " وقال تعالى : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر فقد صرح بالمدعو به ، فلو كانت الميم بقية "أمنا " لفسد المعنى فبان بطلانه . وهذا من الأسماء التي لزمت النداء فلا يجوز أن يقع في غيره ، وقد وقع في ضرورة الشعر كونه فاعلا . أنشد الفراء :


1213 - كحلفة من أبي دثار     يسمعها اللهم الكبار



فاستعمله هنا فاعلا بقوله : "يسمعها " ولا يجوز تخفيف ميمه ، وجوزه الفراء وأنشد البيت : "يسمعها اللهم الكبار " بتخفيف الميم ؛ إذ لا يمكنه استقامة الوزن إلا بذلك . قال بعضهم : "هذا خطأ فاحش ، وذلك لأن الميم بقية " أمنا "وهو رأي الفراء ، فكيف يجوز الفراء ؟ وأجاب عن البيت بأن الرواية ليست كذلك ، بل الرواية : يسمعها لاهه الكبار . قلت : وهذا [لا يعارض الرواية الأخرى ، فإنه كما صحت هذه صحت ] تيك . ورد [ ص: 99 ] الزجاج مذهب الفراء بأنه لو كان الأصل : " يا لله أمنا "للفظ به منبهة على الأصل كما قالوا في : ويلمه : ويل لأمه .

ومن أحكام هذه اللفظة أيضا أنها كثر دورها حتى حذفت منها الألف واللام في قولهم : " هم "أي : اللهم ، وقال الشاعر :


1214 - لا هم إن عامر بن جهم     أحرم حجا في ثياب دسم



وقال آخر :


1215 - لا هم إن جرهما عبادكا     الناس طرف وهم بلادكا



وفي هذه الكلمة أبحاث كثيرة موضعها غير هذا .

قوله : مالك الملك فيه أوجه ، أحدها : أنه بدل من " اللهم " . الثاني : أنه عطف بيان . الثالث : أنه منادى ثان ، حذفت منه حرف النداء ، أي : يا مالك الملك ، وهذا هو البدل في الحقيقة ، إذ البدل على نية تكرار العامل ، إلا أن الفرق هذا ليس بتابع . الرابع : أنه نعت لـ " اللهم "على الموضع فلذلك نصب ، وهذا ليس مذهب سيبويه ، فإن سيبويه لا يجيز نعت هذه اللفظة لوجود الميم في آخرها ، لأنها أخرجتها عن نظائرها من الأسماء ، وأجاز المبرد ذلك ، واختاره الزجاج قالا : لأن الميم بدل من " يا " [ ص: 100 ] والمنادى مع " يا "لا يمتنع وصفه فكذا مع ما هو عوض منها ، وأيضا فإن الاسم لم يتغير عن حكمه ، ألا ترى إلى بقائه مبنيا على الضم كما كان مبنيا مع " يا " .

وانتصر الفارسي [ لسيبويه ] بأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد "اللهم " فإذا خالف ما عليه الأسماء الموصوفة ودخل في حيز ما لا يوصف من الأصوات وجب ألا يوصف ، والأسماء المناداة المفردة المعرفة القياس ألا توصف كما ذهب إليه بعض الناس لأنها واقعة موقع ما لا يوصف . وكما أنه لما وقع موقع ما لا يعرب لم يعرب ، كذلك لما وقع موقع ما لا يوصف لم يوصف . فأما قوله :


1216 - يا حكم الوارث عن عبد الملك      ... ... ... ...



وقوله :


1217 - يا حكم بن المنذر بن الجارود     سرادق المجد عليك ممدود



و [قوله ] :


1218 - ... ... ... ...     يا عمر الجوادا



[ ص: 101 ] فإن الأول على "أنت " والثاني على نداء ثان ، والثالث على إضمار "أعني " ، فلما كان هذا الاسم الأصل فيه ألا يوصف لما ذكرنا كان "اللهم " أولى ألا يوصف ، لأنه قبل ضم الميم إليه واقع موقع ما لا يوصف ، فلما ضمت إليه الميم صيغ معها صياغة مخصوصة ، وصار حكمه حكم الأصوات ، وحكم الأصوات ألا توصف نحو : "غاق " وهذا مع ما ضم إليه من الميم بمنزلة صوت مضموم إلى صوت نحو : "حيهل " فحقه ألا يوصف كما لا يوصف "حيهل " . انتهى ما انتصر به أبو علي لسيبويه وإن كان لا ينتهض مانعا .

قوله : تؤتي هذه الجملة وما عطف عليها يجوز أن تكون مستأنفة مبينة لقوله : مالك الملك ويجوز أن تكون حالا من المنادى ، وفي انتصاب الحال عن المنادى خلاف ، الصحيح جوازه ، لأنه مفعول به ، والحال كما تكون لبيان هيئة الفاعل تكون لبيان هيئة المفعول ، ولذلك أعرب الحذاق قول النابغة :


1219 - يا دار مية بالعلياء فالسند     أقوت وطال عليها سالف الأبد



إن "بالعلياء " حال من "دار مية " ، وكذلك "أقوت " .

والثالث من وجوه " تؤتي " أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي : أنت تؤتي ، فتكون الجملة اسمية ، وحينئذ يجوز أن تكون مستأنفة وأن تكون حالية .

وقوله : تشاء أي : تشاء إيتاءه ، وتشاء انتزاعه ، فحذف المفعول بعد المشيئة للعلم به .

[ ص: 102 ] قوله : بيدك الخير [قيل : في الكلام حذف معطوف تقديره : والشر ، فحذف كقوله ] : تقيكم الحر أي : والبرد ، وكقوله :


1220 - كأن الحصا من خلفها وأمامها     إذا نجلته رجلها خذف أعسرا



أي : ويدها .

وقال الزمخشري : "فإن قلت : كيف قال : " بيدك الخير "فذكر الخير دون الشر ؟ قلت : لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه الله إلى المؤمنين ، وهو الذي أنكرته الكفرة ، فقال : بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك " انتهى . وهذا جواب حسن جدا ، ثم ذكر هو كلاما آخر يوافق مذهبه لا حاجة لنا به ، وقيل : هذا من آداب القرآن حيث لم يصرح إلا بما هو محبوب لخلقه ، ونحو منه قوله : "والشر ليس إليك " وقوله : وإذا مرضت فهو يشفين .

والنزع : الجذب ، يقال : نزعه ينزعه نزعا إذا جذبه عنه ، ويعبر به عن الميل ، ومنه : "نزعت نفسه إلى كذا " كأن جاذبا جذبها ، ويعبر به عن الإزالة ، "نزع الله عنك الشر " أي : أزاله ، ينزع عنهما لباسهما أي : أزاله ، وكهذه الآية فإن المعنى : ويزيل الملك .

التالي السابق


الخدمات العلمية