صفحة جزء
آ . (31) قوله : كم أهلكنا : " كم " هنا خبرية فهي مفعول بـ " أهلكنا " تقديره : كثيرا من القرون أهلكنا . وهي معلقة لـ " يروا " ذهابا بالخبرية مذهب الاستفهامية . وقيل : بل " يروا " علمية ، و " كم " استفهامية كما سيأتي بيانه .

و أنهم إليهم لا يرجعون فيه أوجه ، أحدها : أنه بدل من " كم " قال [ ص: 261 ] ابن عطية : " وكم هنا خبرية ، و " أنهم " بدل منها ، والرؤية بصرية " . قال الشيخ : " وهذا لا يصح ; لأنها إذا كانت خبرية كانت في موضع نصب بـ " أهلكنا " . ولا يسوغ فيها إلا ذلك . وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون " أنهم " بدلا منها ; لأن البدل على نية تكرار العامل . ولو سلطت أهلكنا على " أنهم " لم يصح ; ألا ترى أنك لو قلت : أهلكنا انتفاء رجوعهم ، أو أهلكنا كونهم لا يرجعون ، لم يكن كلاما . لكن ابن عطية توهم أن " يروا " مفعوله " كم " فتوهم أن قوله : أنهم إليهم لا يرجعون بدل منه ; لأنه يسوغ أن يسلط عليه فتقول : ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون . وهذا وأمثاله دليل على ضعفه في علم العربية " . قلت : وهذا الإنحاء تحامل عليه ; لأنه لقائل أن يقول : " كم " قد جعلها خبرية ، والخبرية يجوز أن تكون معمولة لـ ما قبلها عند قوم ، فيقولون : " ملكت كم عبد " فلم يلزم الصدر ، فيجوز أن يكون بنى هذا التوجيه على هذه اللغة وجعل " كم " منصوبة بـ " يروا " و " أنهم " بدل منها ، وليس هو ضعيفا في العربية حينئذ .

الثاني : أن " أنهم " بدل من الجملة قبله . قال الزجاج : " هو بدل من الجملة ، والمعنى : ألم يروا أن القرون التي أهلكناها أنهم لا يرجعون ; لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى " . قال الشيخ : " وليس بشيء ; لأنه ليس بدلا صناعيا ، وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صناعة النحو " . قلت : بل هو بدل صناعي ; لأن الجملة في قوة المفرد ; إذ هي سادة مسد مفعول " يروا " فإنها معلقة لها كما تقدم .

[ ص: 262 ] الثالث : قال الزمخشري : " ألم يروا " ألم يعلموا ، وهو معلق عن العمل في " كم " لأن " كم " لا يعمل فيها عامل قبلها - كانت للاستفهام أو للخبر - لأن أصلها الاستفهام ، إلا أن معناها نافذ في الجملة كما نفذ في قولك : " ألم يروا إن زيدا لمنطلق " وإن لم يعمل في لفظه ، وأنهم إليهم لا يرجعون : بدل من " كم أهلكنا " على المعنى لا على اللفظ تقديره : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم " .

قال الشيخ : " قوله لأن " كم " لا يعمل فيها ما قبلها كانت للاستفهام أو للخبر " ليس على إطلاقه ; لأن العامل إذا كان حرف جر أو اسما مضافا جاز أن يعمل فيها نحو : " على كم جذع بيتك ؟ وابن كم رئيس صحبت ؟ وعلى كم فقير تصدقت أرجو الثواب ؟ وابن كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه ؟ " . وقوله : " أو للخبر " والخبرية فيها لغتان : الفصيحة كما ذكر لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار ، واللغة الأخرى حكاها الأخفش يقولون : " ملكت كم غلام " أي : ملكت كثيرا من الغلمان . فكما يجوز تقدم العامل على كثيرا كذلك يجوز على " كم " لأنها بمعناها . وقوله : " لأنها أصلها الاستفهام ، والخبرية ليس أصلها الاستفهام " بل كل واحدة أصل بنفسها ، ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر . وقوله : " لأن معناها نافد في الجملة " يعني معنى " يروا " نافذ في الجملة ; لأنه جعلها معلقة وشرح " يروا " بـ يعلموا .

وقوله : " كما نفذ في قولك : ألم يروا إن زيدا لمنطلق " يعني أنه لو كان معمولا من حيث اللفظ لامتنع دخول اللام ولفتحت " إن " فإن " إن " التي في [ ص: 263 ] خبرها اللام من الأدوات المعلقة لأفعال القلوب . وقوله : " إنهم إليهم " إلى آخره كلامه لا يصح أن يكون بدلا لا على اللفظ ولا على المعنى . أما على اللفظ فإنه زعم أن " يروا " معلقة فتكون " كم " استفهامية فهي معمولة لـ " أهلكنا " ، و " أهلكنا " لا يتسلط على أنهم إليهم لا يرجعون . وقد تقدم لنا ذلك . وأما على المعنى فلا يصح أيضا لأنه قال : تقديره : أي على المعنى ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم ، فكونهم غير راجعين ليس كثرة الإهلاك ، فلا يكون بدل بعض من كل ، ولا يكون بدل اشتمال ; لأن بدل الاشتمال يصح أن يضاف إلى ما أبدل منه ، وكذلك بدل بعض من كل . وهذا لا يصح هنا . لا تقول : ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم ، وفي بدل الاشتمال نحو : " أعجبتني الجارية ملاحتها ، وسرق زيد ثوبه " يصح : " أعجبتني ملاحة الجارية ، وسرق ثوب زيد " .

الرابع : أن يكون " أنهم " بدلا من موضع " كم أهلكنا " ، والتقدير : ألم يروا أنهم إليهم . قاله أبو البقاء . ورده الشيخ : بأن " كم أهلكنا " ، ليس بمعمول لـ " يروا " .

قلت : قد تقدم أنها معمولة لها على معنى أنها معلقة لها .

الخامس : - وهو قول الفراء - أن يكون " يروا " عاملا في الجملتين من غير إبدال ، ولم يبين كيفية العمل . وقوله " الجملتين " تجوز ; لأن " أنهم " ليس بجملة لتأويله بالمفرد إلا أنه مشتمل على مسند ومسند إليه .

السادس : أن " أنهم " معمول لفعل محذوف دل عليه السياق والمعنى ، [ ص: 264 ] تقديره : قضينا وحكمنا أنهم لا يرجعون . ويدل على صحة هذا قراءة ابن عباس والحسن " إنهم " بكسر الهمزة على الاستئناف ، والاستئناف قطع لهذه الجملة مما قبلها فهو مقو لأن تكون معمولة لفعل محذوف يقتضي انقطاعها عما قبلها . والضمير في " أنهم " عائد على معنى " كم " وفي " إليهم " عائد على ما عاد عليه واو " يروا " . وقيل : بل الأول عائد على ما عاد عليه واو " يروا " . والثاني عائد على المهلكين .

التالي السابق


الخدمات العلمية