صفحة جزء
آ . (35) قوله تعالى : إذ قالت امرأت عمران : في الناصب له أوجه ، أحدها : أنه "اذكر " مقدرا ، فيكون مفعولا به لا ظرفا أي : اذكر لهم وقت قول امرأة عمران كيت وكيت ، وإليه ذهب أبو الحسن وأبو العباس . الثاني : أن الناصب له معنى الاصطفاء أي بـ "اصطفى " مقدرا مدلولا عليه باصطفى الأول ، والتقدير : واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران ، وعلى هذا يكون قوله : "وآل عمران " من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات ، إذا لو جعل من عطف المفردات لزم أن يكون وقت اصطفاء آدم وقت قول امرأة عمران كيت وكيت ، وليس كذلك لتغاير الزمانين ، فلذلك اضطررنا إلى تقدير عامل غير هذا الملفوظ به ، وإلى هذا ذهب الزجاج وغيره .

[ ص: 130 ] الثالث : أنه منصوب بـ "سميع " وبه صرح ابن جرير الطبري . وإليه نحا الزمخشري ظاهرا فإنه قال : "أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها ، و " إذ "منصوب به " . قال الشيخ : "ولا يصح ذلك لأن قوله " عليم " : إما أن يكون خبرا بعد خبر أو وصفا لقوله : " سميع " ، فإن كان خبرا فلا يجوز الفصل بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما ، وإن كان وصفا فلا يجوز أن يعمل " سميع "في الظرف لأنه قد وصف ، واسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وصف قبل أخذ معموله لا يجوز له إذ ذاك أن يعمل ، على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك ، ولأن اتصافه تعالى بسميع عليم لا يتقيد بذلك الوقت " قلت : وهذا العذر غير مانع لأنه يتسع في الظرف وعديله ما لا يتسع في غيره ، ولذلك يقدم على ما في حيز "أل " الموصولة وما في حيز "أن " المصدرية .

الرابع : أن تكون "إذ " زائدة وهو قول أبي عبيدة ، والتقدير : قالت امرأة ، وهذا عند النحويين غلط ، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو .

قوله : محررا في نصبه أوجه ، أحدها : أنه حال من الموصول وهو "ما في بطني " ، فالعامل فيها "نذرت " . الثاني : أنه حال من الضمير المرفوع بالجار لوقوعه صلة لـ "ما " ، وهو قريب من الأول ، فالعامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمنه الجار والمجرور . الثالث : أن ينتصب على المصدر ؛ لأن المصدر يأتي على زنة اسم المفعول من الفعل الزائد على ثلاثة أحرف ، وعلى هذا فيجوز أن يكون في الكلام حذف مضاف تقديره : [ ص: 131 ] نذرت لك ما في بطني نذر تحرير ، ويحوز أن يكون مما انتصب على المعنى ؛ لأن معنى "نذرت لك " حررت ما في بطني تحريرا . ومن مجيء المصدر بزنة المفعول مما زاد على الثلاثي قوله تعالى : ومزقناهم كل ممزق ، وقوله : ومن يهن الله فما له من مكرم في قراءة من فتح الراء ، أي : كل تمزيق ، وفما له من إكرام ، ومثله قول الشاعر :


1240 - ألم تعلم مسرحي القوافي فلاعيا بهن ولا اجتلابا



أي : تسريحي القوافي . الرابع : أن يكون نعت مفعول محذوف تقديره : غلاما محررا ، قاله مكي بن أبي طالب . وجعل ابن عطية في هذا القول نظرا . قلت : وجه النظر فيه أن "نذر " قد أخذ مفعوله وهو قوله : ما في بطني فلم يتعد إلى مفعول آخر ؟ وهو نظر صحيح . وعلى القول بأنها حال يجوز أن تكون حالا مقارنة إن أريد بالتحرير معنى العتق ، ومقدرة إن أريد به معنى خدمة الكنيسة كما جاء في التفسير .

ووقف أبو عمرو والكسائي على "امرأه " بالهاء دون التاء ، وقد كتبوا امرأة بالتاء وقياسها الهاء هنا وفي يوسف : امرأت العزيز [في ] موضعين ، [ ص: 132 ] و امرأت نوح وامرأت لوط و امرأت فرعون ، وأهل المدينة يقفون بالتاء اتباعا لرسم المصحف ، وهي لغة للعرب يقولون في حمزة : حمزت ، وأنشدوا :


1241 - الله نجاك بكفي مسلمت     من بعدما وبعدما وبعدمت



وقوله : ما في بطني أتى بـ "ما " التي لغير العاقل لأن ما فيه بطنها مبهم أمره ، والمبهم أمره يجوز أن يعبر عنه بـ "ما " ، ومثاله إذا رأيت شيخا من بعيد لا تدري أإنسان هو أم غيره : ما هذا ؟ ولو عرفت أنه إنسان وجهلت كونه ذكرا أم أنثى قلت : ما هو . أيضا ، والآية من هذا القبيل هذا عند من يرى أن "ما " مخصوصة بغير العاقل ، وأما من يرى وقوعها على العقلاء فلا يتأول شيئا . وقيل : إنه لما كان ما في البطن لا تمييز له ولا عقل عبر بـ "ما " التي لغير العقلاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية