صفحة جزء
آ . (36) قوله تعالى : فلما وضعتها : الضمير في "وضعتها " يعود على "ما " من حيث المعنى ، لأن الذي في بطنها أنثى في علم الله تعالى ، فعاد الضمير على معناها ، دون لفظها . وقيل : إنما أنثه حملا على معنى النسمة أو الحبلة أو النفس ، قاله الزمخشري وقال ابن عطية : "حملا على الموجودة [ورفعا للفظ " ما "في قوله : ما في بطني ] محررا .

[ ص: 133 ] قوله : أنثى فيه وجهان ، أحدهما : أنها منصوبة على الحال وهي حال مؤكدة لأن التأنيث مفهوم من تأنيث الضمير ، فجاءت " أنثى "مؤكدة ، قال الزمخشري " فإن قلت : كيف جاز انتصاب "أنثى " حالا من الضمير في "وضعتها " وهو كقولك : "وضعت الأنثى أنثى " ؟ قلت : الأصل وضعته أنثى ، وإنما أنث لتأنيث الحال ، لأن الحال وذا الحال لشيء واحد كما أنث الاسم في "من كانت أمك " لتأنيث الخبر . ونظيره قوله تعالى : فإن كانتا اثنتين ، وأما على تأويل النسمة والحبلة فهو ظاهر ، كأنه قيل : إني وضعت الحبلة والنسمة أنثى "يعني أن الحال على الجواب الثاني تكون مبينة لا مؤكدة ، وذلك لأن النسمة والحبلة تصدق على الذكر وعلى الأنثى ، فلما حصل فيها الاشتراك جاءت الحال مبينة لها .

إلا أن الشيخ ناقشه في الجواب الأول فقال : " وآل قوله - يعني الزمخشري - إلى أنها حال مؤكدة ، ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال عن أن تكون حالا مؤكدة . وأما تشبيهه ذلك بقوله : "من كانت أمك " حيث عاد الضمير على معنى "من " فليس ذلك نظير "وضعتها أنثى " لأن ذلك حمل على معنى "من " إذ المعنى : أية امرأة كانت أمك ، أي : كانت هي أي أمك ، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبر ، وإنما هو من باب الحمل على معنى من ، ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير "وضعتها أنثى " لأن الخبر تخصص بالإضافة إلى الضمير ، فاستفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم ، بخلاف "أنثى " فإنه لمجرد التوكيد . وأما تنظيره بقوله : فإن كانتا اثنتين فيعني أنه ثنى الاسم لتثنية الخبر ، والكلام عليه يأتي في مكانه ، فإنه من [ ص: 134 ] المشكلات ، فالأحسن أن يجعل الضمير في "وضعتها أنثى " عائدا على النسمة أو النفس ، فتكون الحال مبينة لا مؤكدة " .

قلت : قوله " ليس نظيره ، لأن "من كانت أمك " حمل فيه على معنى [من ] ، وهذا أنث لتأنيث الخبر "ليس كما قال ، بل هو نظيره ، وذلك أنه في الآية الكريمة حمل على معنى " ما "كما حمل هناك على معنى " من " ، وقول الزمخشري : " لتأنيث الخبر "أي : لأن المراد بـ " من "التأنيث بدليل تأنيث الخبر ، فتأنيث الخبر بين لنا أن المراد بـ " من "المؤنث ، كذلك تأنيث الحال - وهي أنثى - بين لنا أن المراد بـ " ما "في قوله : ما في بطني أنه شيء مؤنث ، وهذا واضح لا يحتاج إلى فكر . وأما قوله : "فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف " وضعتها أنثى "فإنه لمجرد التوكيد " فليس بظاهر أيضا ؛ وذلك لأن الزمخشري إنما أراد بكونه نظيره من حيث إن التأنيث في كل من المثالين مفهوم قبل مجيء الحال في الآية ، وقبل مجيء الخبر في النظير المذكور . أما كونه يفارقه في شيء آخر لعارض فلا يضر ذلك في التنظير ، ولا يخرجه عن كونه يشبهه من هذه الجهة .

وقد تحصل لك في هذه الحال وجهان ، أحدهما : أنها مؤكدة إن قلنا إن الضمير في "وضعتها " عائد على معنى "ما " . والثاني : أنها مبينة إن قلنا : إن الضمير عائد على معنى الحبلة أو النسمة أو النفس ، لصدق كل من هذه الألفاظ الثلاثة على الذكر والأنثى .

الوجه الثاني من وجهي "أنثى " : أنها بدل من "ها " في "وضعتها " بدل كل من كل ، قاله أبو البقاء ، ويكون في هذا البدل بيان ما المراد بهذا [ ص: 135 ] الضمير ، وهذا من المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده لفظا ورتبة . فإن كان الضمير مرفوعا نحو : وأسروا النجوى الذين ظلموا على أحد الأوجه ، فالكل يجيزون فيه البدل . وإن كان غير مرفوع نحو : "ضربته زيدا " ومررت به زيد ، فاختلف فيه ، والصحيح جوازه كقول الشاعر :


1242 - على حالة لو أن في القوم حاتما على جوده لضن بالماء حاتم



بجر "حاتم " الأخير ، بدلا من الهاء في "جوده " .

قوله : بما وضعت قرأ ابن عامر وأبو بكر : "وضعت " بتاء المتكلم ، وهو من كلام أم مريم عليها السلام خاطبت بذلك نفسها تسليا لها ، واعتذارا لله تعالى حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من سدانة بيت المقدس . قال الزمخشري - وقد ذكر هذه القراءة - : "تعني ولعل لله تعالى فيه سرا وحكمة ، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر تسلية لنفسها " . وفي قولها والله أعلم بما وضعت التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إذ لو جرت على مقتضى قولها : "رب " لقالت : "وأنت أعلم " .

وقرأ الباقون : "وضعت " بتاء التأنيث الساكنة على إسناد الفعل لضمير مريم عليها السلام ، وهو من كلام الباري تبارك وتعالى ، وفيه تنبيه على عظم قدر هذا المولود ، وأن له شأنا لم تعرفيه ، ولم تعرفي إلا كونه أنثى لا غير ، دون ما يؤول إليه من أمور عظام وآيات واضحة ، قال الزمخشري : [ ص: 136 ] " ولتكلمها بذلك على وجه التحزن والتحسر قال الله تعالى : والله أعلم بما وضعت تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها منه ، ومعناه : والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق من عظائم الأمور ، وأن يجعله وولده آية للعالمين ، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا فلذلك تحسرت " . وقد رجح بعضهم القراءة الثانية على الأولى بقوله : والله أعلم قال : "لو كان من كلام أم مريم لكان التركيب : وأنت أعلم " وقد تقدم جواب هذا وأنه التفات .

وقرأ ابن عباس : "وضعت " بكسر التاء على أنها تاء المخاطبة ، خاطبها الله تعالى بذلك بمعنى : أنك لا تعلمين قدر هذه المولودة ، ولا قدر ما علمه الله فيها من عظائم الأمور .

قوله : وليس الذكر كالأنثى هذه الجملة تحتمل أن تكون معترضة ، وأن يكون لها محل ، وذلك بحسب القراءات المذكورة في "وضعت " ، كما سيمر بك تفصيله . والألف واللام في "الذكر " يحتمل أن تكون للعهد ، والمعنى : ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها . قال الزمخشري : "فإن قلت : فما معنى قولها : " وليس الذكر كالأنثى " ؟ قلت : هو بيان لـ " ما "في قوله : والله أعلم بما وضعت من التعظيم للموضوع والرفع منه ، ومعناه : وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها ، والألف واللام فيهما للعهد " وأن تكون للجنس على أن مرادها أن الذكر ليس كالأنثى في الفضل والمزية ؛ إذ هو صالح لخدمة المتعبدات وللتحرير ولمخالطة الأجانب بخلاف [ ص: 137 ] الأنثى ، وكان سياق الكلام على هذا يقتضي أن يدخل النفي على ما استقر وحصل عندها وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المقصود منه ، فكان التركيب : وليس الأنثى كالذكر ، وإنما عدل عن ذلك لأنها بدأت بالأهم بما كانت تريده . وهو المتلجلج في صدرها والحائك في نفسها فلم يجر لسانها في ابتداء النطق إلا به فصار التقدير : وليس جنس الذكر مثل جنس الأنثى لما بينهما من التفاوت فيما ذكر . ولولا هذه المعاني التي استنبطها العلماء وفهموها عن الله تعالى لم يكن لمجرد الإخبار بالجملة الليسية معنى ؛ إذ كل أحد يعلم أن الذكر ليس كالأنثى .

وقوله : وإني سميتها مريم هذه الجملة معطوفة على قوله : إني وضعتها على قراءة من ضم التاء في قوله "وضعت " فتكون هي وما قبلها من محل نصب بالقول ، والتقدير : قالت إني وضعتها ، وقالت : والله أعلم بما وضعت ، وقالت : وليس الذكر كالأنثى ، وقالت : إني سميتها مريم . وأما على قراءة من سكن التاء أو كسرها فيكون "إني سميتها " أيضا معطوفا على "إني وضعتها " ، ويكون قد فصل بين المتعاطفين بجملتي اعتراض كقوله تعالى : وإنه لقسم لو تعلمون عظيم قاله الزمخشري .

قال الشيخ : "ولا يتعين ما ذكر من كونهما جملتين معترضتين ، لأنه يحتمل أن يكون وليس الذكر كالأنثى في هذه القراءة من كلامها ، ويكون المعترض جملة واحدة كما كان من كلامها في قراءة من قرأ : " وضعت "بضم التاء ، بل ينبغي أن يكون هذا المتعين لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة ، ولأن في اعتراض جملتين خلافا ، مذهب أبي علي أنه لا تعترض جملتان ، [ ص: 138 ] وأيضا تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما على زعمه بين المعطوف والمعطوف عليه بقوله : وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ليس تشبيها مطابقا للآية لأنه لم تعترض جملتان بين طالب ومطلوب ، بل اعترض بين القسم الذي هو : فلا أقسم بمواقع النجوم وبين جوابه الذي هو : إنه لقرآن كريم بجملة واحدة ، وهي قوله : وإنه لقسم لو تعلمون عظيم لكنه جاء في جملة الاعتراض بين بعض أجزائه وبعض اعتراض بجملة وهو قوله : " لو تعلمون "اعترض به بين المنعوت الذي هو " لقسم "وبين نعته الذي هو " عظيم " ، فهذا اعتراض في اعتراض ، فليس فصلا بجملتي اعتراض كقوله : والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى قلت : والمشاحة بمثل هذه الأشياء ليست طائلة ، وقوله : " ليس فصلا بجملتي اعتراض "ممنوع ، بل هو فصل بجملتي اعتراض ، وكونه جاء اعتراض في اعتراض لا يضر ذلك ولا يقدح في قوله : " فصل بجملتين " .

و " سمى "يتعدى لاثنين . أحدهما بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه ، تقول : سميت ابني زيدا والأصل : بزيد ، قال الشاعر فجمع بين الأصل والفرع :


1243 - وسميت كعبا بشر العظام     وكان أبوك يسمى الجعل



أي : يسمى بالجعل . وقد تقدم الكلام في " مريم "واشتقاقها ومعناها وكونها من الشاذ عن نظائره .

قوله : وإني أعيذها عطف على " إني سميتها " ، وأتى هنا بخبر [ ص: 139 ] " إن "فعلا مضارعا دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها ، بخلاف قوله : " وضعتها وسميتها "حيث أتى بالخبرين ماضيين لانقطاعهما ، وقدم المعاذ به على المعطوف اهتماما به .

وفتح نافع ياء المتكلم قبل هذه الهمزة المضمومة ، وكذلك كل ياء وقع بعدها همزة مضمومة إلا موضعين ، فإن الكل اتفقوا على سكونها فيهما : بعهدي أوف آتوني أفرغ ، والباقي عشرة مواضع ، هذا الذي في هذه السورة أحدها .

التالي السابق


الخدمات العلمية