صفحة جزء
آ . (37) قوله تعالى : فتقبلها : الجمهور على "تقبلها " فعلا ماضيا على تفعل بتشديد العين ، و "ربها " فاعل به . وتفعل يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكون بمعنى المجرد أي : فقبلها ، بمعنى رضيها مكان الذكر المنذور ، ولم يقبل أنثى منذورة مثلمريم ، كذا جاء في التفسير ، وتفعل يأتي بمعنى فعل مجردا نحو : تعجب وعجب من كذا ، وتبرأ وبرئ منه . والثاني : أن تفعل بمعنى استفعل ، أي : فاستقبلها ربها يقال : استقبلت الشيء أي : أخذته أول مرة ، والمعنى : أن الله تولاها في أول أمرها وحين ولادتها ومنه قوله - هو القطامي - :


1244 - وخير الأمر ما استقبلت منه وليس بأن تتبعه اتباعا



[ ص: 140 ] ومنه المثل : "خذ الأمر بقوابله " . وتفعل بمعنى استفعل كثير نحو : تعظم واستعظم ، وتكبر واستكبر ، وتقصيت الشيء ، واستقصيته وتعجلته واستعجلته .

والباء في قوله : بقبول فيها وجهان ، أحدهما . أنها زائدة أي : قبولا ، وعلى هذا فينتصب ، "قبولا " على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد ؛ إذ لو جاء على تقبل لقيل : تقبلا نحو : تكبر تكبرا . وقبول من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الفاء ، وقد تقدم ذكرها أول البقرة ، يقال : قبلت الشيء قبولا . وأجاز الفراء والزجاج ضم القاف من "قبول " ، وهو القياس كالدخول والخروج ، وحكاها ابن الأعرابي عن العرب : قبلته قبولا وقبولا فتح القاف وضمها سماعا عن العرب ، و "على وجهه قبول " لا غير ، يعني لم يقل هنا إلا بالضم ، وأنشدوا :


1245 - ... ... ... ...     والوجه عليه القبول



بضم القاف كذا حكاه بعضهم .

وقال الزجاج : "إن " قبولا هذا ليس منصوبا بهذا الفعل حتى يكون مصدرا على غير الصدر ، بل هو منصوب بفعل موافق له أي : مجرد قال : "والتقدير : فتقبلها يتقبل حسن وقبلها قبولا حسنا أي : رضيها وفيه بعد .

[ ص: 141 ] والوجه الثاني : أن الباء ليست زائدة ، بل هي على حالها ، ويكون المراد بالقبول هنا اسما لما يقبل به الشيء نحو : " اللدود "لما يلد به ، والسعوط : لما يسعط به ، والمعنى بذلك اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر .

وقوله : وأنبتها نباتا نبات أيضا مصدر على غير الصدر ؛ إذ القياس : إنبات . وقيل : بل هو منصوب بمضمر موافق له أيضا تقديره : فنبتت نباتا حسنا .

وقوله : وكفلها قرأ الكوفيون : " وكفلها "بتشديد العين ، " زكريا "بالقصر ، إلا أبا بكر فإنه قرأه بالمد كالباقين ، ولكنه ينصبه ، والباقون يرفعونه كما سيأتي .

وقرأ مجاهد : " فتقبلها "بسكون اللام ، " ربها "منصوبا ، و " أنبتها "بكسر الباء وسكون التاء ، و " كفلها "بكسر الفاء وسكون اللام ، وقرأ أبي : " وأكفلها "كـ " أكرمها "فعلا ماضيا . وقرأ عبد الله المزني "وكفلها " بكسر الفاء والتخفيف .

فأما قراءة الكوفيين فإنهم عدوا الفعل بالتضعيف إلى مفعولين ، ثانيهما [ ص: 142 ] " زكريا " فمن قصره كالأخوين وحفص عنده مقدر النصب ، ومن مده كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة ، وهكذا قرأته .

وأما قراءة بقية السبعة فكفل مخفف عندهم متعد لواحد وهو ضمير مريم ، وفاعله "زكريا " ، ولا مخالفة بين القراءتين ؛ لأن الله لما كفلها إياه كفلها ، وهو في قراءتهم ممدود مرفوع بالفاعلية .

وأما قراءة "أكفلها " فإنه عداه بالهمزة كما عداه غيره بالتضعيف نحو : خرجته وأخرجته ، وكرمته وأكرمته ، وهذه كقراءة الكوفيين في المعنى والإعراب ، فإن الفاعل هو الله تعالى ، والمفعول الأول هو ضمير مريم والثاني هو "زكريا " .

وأما قراءة : "وكفلها " بكسر الفاء فإنها لغة في كفل ، يقال : كفل يكفل ، كقتل يقتل ، وهي الفاشية ، وكفل يكفل كعلم يعلم ، وعليها هذه القراءة ، وإعرابها كإعراب قراءة الجماعة في كون "زكريا " فاعلا .

وأما قراءة مجاهد فإنها كلها على لفظ الدعاء من أم مريم لله تعالى بأن يفعل لها ما سألته . و "ربها " منصوب على النداء أي : فتقبلها يا ربها وأنبتها وكفلها يا ربها . و "زكريا " في هذه القراءة مفعول ثان أيضا كقراءة الكوفيين .

وقرأ حفص والأخوان : "زكريا " بالقصر حيث ورد في القرآن ، وباقي السبعة بالمد ، والمد والقصر في هذا الاسم لغتان فاشيتان عن أهل الحجاز . وهو اسم أعجمي فكان من حقه أن يقولوا فيه : منع من الصرف للعلمية والعجمة كنظائره ، وإنما قالوا : منع من الصرف لوجود ألف التأنيث فيه . إما الممدودة كحمراء أو المقصورة كحبلى ، وكأن الذي اضطرهم إلى [ ص: 143 ] ذلك أنهم رأوه ممنوعا معرفة ونكرة ، قالوا : فلو كان منعه للعلمية والعجمة لانصرف نكرة لزوال أحد سببي المنع ، لكن العرب منعته نكرة ، فعلمنا أن المانع غير ذلك ، وليس معنا هنا ما يصلح مانعا من صرفه إلا ألف التأنيث ، يعنون التشبيه بألف التأنيث ، وإلا فهذا اسم أعجمي لا يعرف له اشتقاق حتى يدعى فيه أن الألف فيه للتأنيث . على أن أبا حاتم قد ذهب إلى صرفه نكرة ، وكأنه لحظ فيه ما قدمته من العجمة والعلمية لكنهم غلطوه وخطؤوه في ذلك .

وقال الفارسي فأشبع فيه القول : "لا يخلو من أن يكون الهمزة فيه : للتأنيث أو للإلحاق أو منقلبة ، ولا يجوز أن تكون منقلبة ؛ لأن الانقلاب لا يخلو من أن يكون من حرف أصلي أو من حرف الإلحاق ، ولا يجوز أن يكون من حرف أصلي لأن الياء والواو لا يكونان أصلا فيما كان على أربعة أحرف ، ولا أن يكون من حرف الإلحاق لأنه ليس في الأصول شيء يكون هذا ملحقا به وإذا ثبت ذلك ثبت أنها للتأنيث ، وكذلك القول في الألف المقصورة " . وهذا الذي قاله أبو علي صحيح لو كان فيما يعرف له اشتقاق ويدخله تصريف ، ولكنهم يجرون الأسماء الأعجمية مجرى العربية بمعنى أن هذا لو ورد في لسان العرب كيف يكون حكمه ؟

وفيه بعد ذلك لغتان أخريان ، إحداهما : زكري بياء مشددة في آخره فقط دون ألف ، وهو في هذه اللغة منصرف . ووجه أبو علي ذلك فقال : "القول فيه أنه حذف منه الياءان اللتان كانتا فيه ممدودا ومقصورا وما بعدهما وألحق ياءي النسب " قال : يدل على ذلك صرف الاسم ، ولو كانت الياءان هما اللتان كانتا فيه لوجب أن لا ينصرف للعجمة والتعريف " ، وهذه اللغة التي [ ص: 144 ] ذكرتها لغة أهل نجد ومن والاهم . والثانية : " زكر "بزنة عمرو ، حكاها الأخفش " .

والكفالة : الضمان في الأصل ، ثم يستعار للضم والأخذ ، يقال منه : كفل يكفل ، وكفل يكفل - كعلم يعلم - كفالة وكفلا فهو كافل وكفيل .

قوله : المحراب فيه وجهان مشهوران ، أحدهما وهو مذهب سيبويه أنه منصوب على الظرف ، وشذ عن سائر إخوانه بعد "دخل " خاصة ، يعني أن كل ظرف مكان مختص لا يصل إليه الفعل إلا بواسطة "في " نحو : "صليت في المحراب " ولا تقول : المحراب ، ونمت في السوق ، ولا تقول : السوق ، إلا مع "دخل " خاصة ، نحو : دخلت السوق والبيت ، وإلا ألفاظا أخر ذكرتها في كتب النحو . والثاني : مذهب الأخفش ، هو نصب ما بعد "دخل " على المفعول به لا على الظرف ، فقولك : "دخلت البيت " كقولك : "هدمت البيت " في نصب كل منهما على المفعول به . وهو قول مرجوح بدليل أن "دخل " لو سلط على غير الظرف المختص وجب وصوله بوساطة "في " تقول : "دخلت في الأمر " ولا تقول : دخلت الأمر ، فدل ذلك على عدم تعديه للمفعول به بنفسه .

والمحراب : قال أبو عبيدة : "هو أشرف المجالس ومقدمها ، وهو كذلك من المسجد " . وقال أبو عمرو بن العلاء : "هو القصر لعلوه وشرفه " . وقال الأصمعي : "هو الغرفة " وأنشد لامرئ القيس :

[ ص: 145 ]

1246 - وماذا عليه أن ذكرت أوانسا     كغزلان رمل في محاريب أقيال



قالوا : معناه في غرف أقيال . وأنشد غيره لعمر بن أبي ربيعة :


1247 - ربة محراب إذا جئتها     لم أدن حتى أرتقي سلما



وقيل : هو المحراب من المسجد المعهود وهو الأليق بالآية . وأما ما ذكرته عمن تقدم فإنما يعنون به المحراب من حيث هو ، وأما في هذه الآية فلا يظهر بينهم خلاف [في ] أنه المحراب المتعارف ، قيل : واشتقاقه من الحرب لتحارب الناس عليه .

وأمال ابن ذكوان عن ابن عامر "المحراب " في هذه السورة موضعين بلا خلاف ، لكونه قوي فيه سبب الإمالة ، وذلك أن الألف تقدمها كسرة وتأخرت عنها كسرة أخرى فقوي داعي الإمالة ، وهذا بخلاف "المحراب " غير المجرور فإنه نقل عن ابن ذكوان فيه الوجهان : الإمالة وعدمها نحو قوله : إذ تسوروا المحراب ، فوجه الإمالة تقدم الكسرة ، ووجه التفخيم أنه الأصل ، وقد تقدم لك الفرق بين كونه مجرورا فلم يخبر عنه فيه خلاف وبين كونه غير مجرور فجرى فيه الخلاف ، وكذلك جرى عنه الخلاف أيضا في "عمران " لما ذكرت لك من تقدم الكسر .

قوله : وجد عندها رزقا هذه "وجد " بمعنى أصاب ولقي وصادف فتتعدى لواحد وهو "رزقا " ، و "عندها " الظاهر أنه ظرف للوجدان . وأجاز [ ص: 146 ] أبو البقاء أن يكون حالا من "رزقا " لأنه يصلح أن يكون صفة له في الأصل ، وعلى هذا فيتعلق بمحذوف ، و "وجد " هو الناصب لكلما ، لأنها ظرفية ، وقد تقدم تحقيقه . وأبو البقاء سماه جوابها ؛ لأنها عنده تشبه الشرط كما سيأتي .

قوله : " قال يا مريم " فيه وجهان ، أحدهما : أنه مستأنف ، قال أبو البقاء : "ولا يجوز أن يكون بدلا من " وجد "لأنه ليس بمعناه " . والثاني : أنه معطوف بالفاء ، فحذف العاطف ، قال أبو البقاء : "كما حذفت في جواب الشرط كقوله : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ، وكذلك قول الشاعر :


1248 - من يفعل الحسنات الله يشكرها      ... ... ... ...



وهذا الموضع يشبه جواب الشرط ؛ لأن " كلما "تشبه الشرط في اقتضائها الجواب " انتهى . قلت : وهذا الذي قاله فيه نظر من حيث إنه تخيل أن قوله تعالى وإن أطعتموهم أن جواب الشرط هو نفس " إنكم لمشركون " حذفت منه الفاء ، وليس كذلك ، بل جواب الشرط محذوف ، و " إنكم لمشركون " جواب قسم مقدر قبل الشرط ، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة ، فليس هذا مما حذفت منه فاء الجزاء البتة ، وكيف يدعي ذلك ويسويه بالبيت المذكور وهو لا يجوز إلا في ضرورة ، ثم الذي يظهر أن الجملة من قوله : "وجد " في محل نصب على الحال من فاعل "دخل " ، ويكون جواب "كلما " هو نفس [ ص: 147 ] " قال " والتقدير : كلما دخل عليها زكريا واجدا عندها الرزق قال ، وهذا بين جدا . ونكر "رزقا " تعظيما له أو ليدل به على نوع ما منه .

قوله : أنى لك هذا أنى خبر مقدم ، و "هذا " مبتدأ مؤخر ، ومعنى "أنى " هنا : من أين ، كذا فسرها أبو عبيدة ، وقيل : ويجوز أن يكون سؤالا عن الكيفية أي : كيف تهيأ لك هذا ، قال الكميت :


1249 - أنى ومن أين آبك الطرب     من حيث لا صبوة ولا ريب



وجوز أبو البقاء في "أنى " أن ينتصب على الظرف بالاستقرار الذي في "لك " ، و "لك " رافع لـ "هذا " يعني بالفاعلية ولا حاجة إلى ذلك . وقد تقدم الكلام على "أنى " في البقرة .

إن الله يرزق من يشاء تقدم نظيره ، ويحتمل أن يكون مستأنفا [من كلام الله تعالى ، وأن يكون من كلام مريم فيكون منصوبا ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية