صفحة جزء
[ ص: 159 ] آ . (40) قوله تعالى : أنى يكون لي غلام : يجوز أن تكون الناقصة ، وفي خبرها حينئذ وجهان ، أحدهما : "أنى " لأنها بمعنى كيف ، أو بمعنى من أين : و "لي " على هذا تبيين . والثاني : أن الخبر الجار و "كيف " منصوب على الظرف . ويجوز أن تكون التامة فيكون الظرف والجار كلاهما متعلقين بـ "يكون " لأنه تام ، أي : كيف يحدث لي غلام ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من "غلام " لأنه لو تأخر لكان صفة له .

وقوله : وقد بلغني الكبر جملة حالية ، وفي موضع آخر وقد بلغت من الكبر لأن ما بلغك فقد بلغته . وقيل : لأن الحوادث تطلب الإنسان . وقيل : هو من المقلوب كقوله :


1264 - مثل القنافذ هداجون قد بلغت نجران أو بلغت سوآتهم هجر



ولا حاجة إليه .

وقدم في هذه السورة حال نفسه ، وأخر حال امرأته ، وفي مريم عكس ، فقيل : صدر الآيات في مريم مطابق لهذا التركيب لأنه قدم وهن عظمه واشتعال شيبه وخيفة مواليه من ورائه ، وقال : وكانت امرأتي عاقرا فلما أعاد ذكرهما في استفهام آخر ذكر الكبر ليوافق "عتيا " رؤوس الآي ، وهو باب مقصود في الفصاحة ، والعطف بالواو لا يقتضي ترتيبا زمانيا ، فلذلك لم يبال بتقديم ولا تأخير .

[ ص: 160 ] والغلام : الفتي السن من الناس وهو الذي شاربه ، وإطلاقه على الطفل وعلى الكهل مجاز ، أما الطفل فللتفاؤل بما يؤول إليه ، وأما الكهل فباعتبار ما كان عليه . قالت ليلى الأخيلية :


1265 - شفاها من الداء العضال الذي بها     غلام إذا هز القناة شفاها



وقال بعضهم : ما دام الولد في بطن أمه سمي "جنينا " . قال تعالى : وإذ أنتم أجنة ، سمي بذلك لاجتنانه في الرحم ، فإذا ولد سمي "صبيا " فإذا فطم سمي "غلاما " إلى سبع سنين ، ثم سمي يافعا إلى أن يبلغ عشر سنين ، ثم يطلق عليه "حزور " إلى خمس عشرة ، ثم يصير "قمدا " إلى خمس وعشرين سنة ، ثم ، "عنطنطا " إلى ثلاثين قال :


1266 - وبالجعد حتى صار جعدا عنطنطا     إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه



ثم "حملا " إلى أربعين ثم "كهلا " إلى خمسين ، ثم "شيخا " إلى ثمانين ثم "هم " بعد ذلك .

واشتقاق الغلام من الغلمة والاغتلام ، وهو طلب النكاح ، لما كان مسببا عنه أخذ منه لفظه ، ويقال : "اغتلم الفحل " أي : اشتدت شهوته إلى طلب النكاح ، واغتلم البحر أي : هاج وتلاطمت أمواجه مستعار منه ، وقياسه في القلة أغلمة ، وفي الكثرة : غلمان ، وقد جمع على غلمة شذوذا ، وهل هذه الصيغة جمع تكسير أم اسم جمع ؟ قال الفراء : "يقال غلام بين الغلومة والغلومية والغلامية " قال : "والعرب تجعل مصدر كل اسم ليس له فعل [ ص: 161 ] معروف على هذا المثال ، فيقولون : عبد بين العبودة والعبودية والعبادية " يعني لم تتكلم العرب من هذا بفعل .

والكبر : مصدر كبر يكبر كبرا أي : طعن في السن ، قال :


1267 - صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا     إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم



قوله : وامرأتي عاقر جملة حالية : إما من الياء في "لي " فتعدد الحال عند من يراه ، وإما من الياء في "بلغني " . والعاقر : من لا يولد له رجلا كان أو امرأة ، مشتقا من العقر وهو القتل ، كأنهم تخيلوا فيه قتل أولاده والفعل بهذا المعنى لازم ، وأما عقرت بمعنى نحرت فمتعد ، قال تعالى : فعقروا الناقة ، وقال :


1268 - ... ... ... ...     عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل



وقيل : "عاقر " على النسب أي : ذات عقر ، وهي بمعنى مفعول أي : معقورة ، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث .

والعقر العقر بضم العين وفتحها : أصل الشيء ، ومنه : عقر الدار وعقر الحوض ، وفي الحديث : " ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا " وعقرته : أصبت عقره أي : أصله نحو : رأسته أي : أصبت رأسه ، والعقر أيضا : آخر الولد ، وكذلك بيضة العقر ، والعقار : الخمر لأنها تعقر العقل مجازا وفي [ ص: 162 ] كلامهم : "رفع فلان عقيرته " أي : صوته ، وذلك أن رجلا عقر رجله فرفع صوته فاستعير ذلك لكل من رفع صوته . وقال بعضهم : "يقال : عقرت المرأة تعقر عقرا وعقارة " أنشد الفراء :


1269 - أرزام باب عقرت أعواما     فعلقت بنيها تسماما



ويقال : عقر الرجل وعقر وعقر إذا لم تحبل زوجته فجعلوا الفعل المسند إلى الرجل أوسع من المسند إلى المرأة ، قال الزجاج : "عاقر " : بمعنى ذات عقر ، قال : "لأن فعلت أسماء الفاعلين منه على فعيلة نحو : طريفة وكريمة ، وإنما " عاقر "على ذات عقر " قلت : وهذا نص في أن الفعل المسند للمرأة لا يقال فيه إلا عقرت بضم القاف إذا لو جاز فتحها أو كسرها لجاز منها "فاعل " من غير تأويل على النسب . ومن ورود "عاقر " وصفا للرجل قول عامر بن الطفيل :


1270 - لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا     جبانا فما عذري لدى كل محضر



قوله : كذلك الله يفعل ما يشاء في الكاف وجهان : أحدهما : أنها في محل نصب وفيه التخريجان المشهوران ، أحدهما - وعليه أكثر المعربين - أنها نعت لمصدر محذوف تقديره : يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل ، وهو خلق الولد بين شيخ فان وعجوز عاقر .

[ ص: 163 ] والثاني : أنها في محل نصب على الحال من ضمير ذلك المصدر أي : يفعل الفعل حال كونه مثل ذلك ، وهو مذهب سيبويه وقد تقدم إيضاحه .

والثاني : من وجهي الكاف أنها في محل رفع على أنها خبر مقدم ، والجلالة مبتدأ مؤخر ، فقدره الزمخشري "على نحو هذه الصفة الله " ، ويفعل ما يشاء بيان له ، وقدره ابن عطية : كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله ، وقدره الشيخ فقال : "وذلك على حذف مضاف أي : صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع ، فيكون " يفعل ما يشاء "شرحا للإبهام الذي في اسم الإشارة " فالكلام على الأول جملة واحدة وعلى الثاني جملتان . وقال ابن عطية : "ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته ، كأنه قال : رب على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا ؟ فقال له : كما أنتما يكون لكما الغلام ، والكلام تام على هذا التأويل في قوله : " كذلك " ، وقوله : الله يفعل ما يشاء جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب " انتهى . وعلى هذا الذي ذكره يكون "كذلك " متعلقا بمحذوف ، و "الله يفعل " جملة منعقدة من مبتدأ وخبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية