صفحة جزء
آ . (41) قوله تعالى : اجعل لي آية يجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير فيتعدى لاثنين أولهما "آية " والثاني : الجار قبله . والتقديم هنا واجب ، لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة وهي "آية " لو انحلت إلى مبتدأ وخبر إلا تقدم هذا الجار ، وحكمهما بعد دخول الناسخ حكمهما قبله ، والتقدير : صير آية من الآيات لي . ويجوز أن يكون بمعنى الخلق والاتخاذ [ ص: 164 ] أي : اخلق لي آية فتعدى لواحد ، وفي "لي " على هذا وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بالجعل ، والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من "آية " لأنه لو تأخر لجاز أن يقع صفة لها ، ويجوز أن يكون للبيان . وحرك الياء بالفتح نافع وأبو عمرو ، وأسكنها الباقون .

قوله : ألا تكلم أن وما في حيزها في محل رفع خبرا لقوله : "آيتك " أي : آيتك عدم كلامك للناس . والجمهور على نصب "تكلم " بأن المصدرية . وقرأ ابن أبي عبلة برفعه ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن تكون "أن " مخففة من الثقيلة ، واسمها حينئذ ضمير شأن محذوف ، والجملة المنفية بعدها في محل رفع خبرا لـ "أن " ، ومثله : أفلا يرون ألا يرجع وحسبوا ألا تكون فتنة ، ووقع الفاصل بين أن والفعل الواقع خبرها بحرف نفي ، ولكن يضعف كونها مخففة عدم وقوعها بعد فعل يقين . الثاني : أن تكون الناصبة حملت على "ما " أختها ، ومثله : لمن أراد أن يتم الرضاعة ، وأن وما في حيزها أيضا في محل رفع خبرا لـ "آيتك " .

قوله تعالى : ثلاثة أيام الصحيح أن هذا النحو - وهو ما كان من الأزمنة يستغرق جميعه الحدث الواقع فيه - منصوب على الظرف خلافا للكوفيين فإنهم ينصبونه نصب المفعول به ، وقيل : "وثم معطوف محذوف تقديره : ثلاثة أيام ولياليها ، فحذف كقوله تعالى : تقيكم الحر ونظائره ، [ ص: 165 ] يدل على ذلك قوله في سورة مريم : ثلاث ليال سويا ، وقد يقال : إنه يؤخذ المجموع من المجموع فلا حاجة إلى ادعاء حذف ، فإنا على هذا التقدير الذي ذكرتموه نحتاج إلى تقدير معطوف في الآية الأخرى تقديره : ثلاث ليال وأيامها .

قوله : إلا رمزا فيه وجهان ، أحدهما : أنه استثناء منقطع لأن الرمز ليس من جنس الكلام ، إذ الرمز : الإشارة بعين أو حاجب ، أو نحوهما ، ولم يذكر أبو البقاء غيره ، واختاره ابن عطية بادئا به فإنه قال : " والكلام المراد في الآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء أنه استثناء منقطع "ثم قال : " وذهب الفقهاء إلى أن الإشارة ونحوها في حكم الكلام في الأيمان ونحوها ، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلا " .

والوجه الثاني : أنه متصل ؛ لأن الكلام لغة يطلق بإزاء معان ، الرمز والإشارة من جملتها ، وأنشدوا على ذلك :


1271 - إذا كلمتني بالعيون الفواتر رددت عليها بالدموع البوادر



وقال آخر :


1272 - أرادت كلاما فاتقت من رقيبها     فلم يك إلا ومؤها بالحواجب



وقد استعمل الناس ذلك فقال حبيب :

[ ص: 166 ]

1273 - كلمته بجفون غير ناطقة     فكان من رده ما قال حاجبه



وبهذا الوجه بدأ الزمخشري مختارا له قال : "لما أدي مؤدى الكلام وفهم منه ما يفهم منه سمي كلاما ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا " .

والرمز : الإشارة والإيماء بعين أو حاجب أو يد ، ومنه قيل للفاجرة : الرامزة والرمازة ، وفي الحديث : " نهى عن كسب الرمازة " يقال فيه : رمزت ترمز وترمز بضم العين وكسرها في المضارع ، وأصل الرمز : التحرك يقال : رمز وارتمز أي : تحرك ، ومنه قيل للبحر : الراموز لتحركه واضطرابه . وقال الراغب : "الرمز : إشارة بالشفة ، والصوت الخفي والغمز بالحاجب ، وما ارماز أي : لم يتكلم رمزا ، وكتيبة رمازة : أي لم يسمع منها إلا رمز لكثرتها " قلت : ويؤيد كونه الصوت الخفي - كما قال الراغب - ما جاء في التفسير أنه كان ممنوعا من رفع الصوت .

والعامة قرؤوا : رمزا بفتح الراء وسكون الميم . وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة بن قيس : "رمزا " بضمهما وفيه وجهان ، أحدهما : أنه مصدر على فعل بتسكين العين في الأصل ، ثم ضمت العين إتباعا كقولهم : اليسر والعسر في : اليسر والعسر ، وقد تقدم في هذا كلام لأهل التصريف . والثاني : أنه جمع رموز كرسل في جمع رسول ، ولم يذكر الزمخشري غيره . وقال أبو البقاء : "وقرئ بضمها - أي الراء - وهو جمع رمزة بضمتين ، وأقر ذلك في الجمع ، ويجوز أن يكون سكن الميم في الأصل ، وإنما أتبع الضم [ ص: 167 ] الضم ، ويجوز أن يكون مصدرا غير جمع وضم إتباعا كاليسر واليسر " قلت : قوله : "جمع رمزة " إلى قوله "في الأصل " كلام مثبج لا يفهم منه معنى صحيح . وقرأ الأعمش : "رمزا " بفتحهما . وخرجها الزمخشري على أنه جمع رامز كخادم وخدم .

وانتصابه على هذا على الحال من الفاعل وهو ضمير زكريا ، والمفعول معا وهو الناس كأنه : إلا مترامزين كقوله :


1274 - متى ما تلقني فردين ترجف     روانف إليتيك وتستطارا



وكقوله :


1275 - فلئن لقيتك خاليين لتعلمن     أيي وأيك فارس الأحزاب



قوله تعالى : كثيرا نعت لمصدر محذوف أو حال من ضمير ذلك المصدر وقد عرف . أو نعت لزمان محذوف تقديره : ذكرا كثيرا أو زمانا كثيرا .

والباء في قوله : بالعشي بمعنى "في " أي : في العشي والإبكار . والعشي يقال من وقت زوال الشمس إلى مغيبها ، كذا قال الزمخشري . وقال الراغب : "العشي : من زوال الشمس إلى الصباح " والأول هو المعروف . وقال الواحدي : "العشي : جمع عشية وهي آخر النهار " .

[ ص: 168 ] والعامة قرؤوا : "والإبكار " بكسر الهمزة ، وهو مصدر بكر يبكر إبكارا أي : خرج بكرة ، ومثله بكر بالتخفيف وابتكر . قال عمر بن أبي ربيعة :


1276 - أمن آل نعم أنت غاد فمبكر      ... ... ... ...



فهذا من أبكر . وقال أيضا :


1277 - أيها الرائح المجد ابتكارا      ... ... ... ...



وقال الآخر :


1278 - بكرن بكورا واستحرن بسحرة     فهن ووادي الرس كاليد في الفم



وقرئ شاذا : "والأبكار " بفتح الهمزة ، وهو جمع "بكر " بفتح الفاء والعين . ومتى أريد به هذا الوقت من يوم بعينه امتنع من الصرف والتصرف فلا يستعمل غير ظرف . تقول : "أتيتك يوم الجمعة بكر " ، وسبب منع صرفه التعريف والعدل من "أل " ، فلو أريد به وقت مبهم انصرف نحو : "أتيتك بكرا من الأبكار " ، ونظيره : سحر وأسحار في جميع ما تقدم ، وهذه القراءة تناسب قوله "العشي " عند من يجعلها جمع "عشية " ليتقابل الجمعان .

ووقت الإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى وقال الراغب : " [ ص: 169 ] أصل الكلمة هي البكرة أول النهار ، فاشتق من لفظه لفظ الفعل فقيل : بكر فلان بكورا إذا خرج بكرة ، والبكور : المبالغ في البكور ، وبكر في حاجته وابتكر وباكر ، وتصور فيها معنى التعجيل لتقدمها على سائر أوقات النهار ، فقيل لكل متعجل : بكر " قلت : ظاهر هذه العبارة - وكذا عبارة غيره - أن البكر مختص بطلوع الشمس إلى الضحى ، فإن أريد به من أول طلوع الفجر إلى الضحى ، فإنه على خلاف الأصل . وقد صرح الواحدي بذلك فقال : هذا معنى الإبكار ، ثم يسمى ما بين طلوع الفجر إلى الضحى إبكارا كما يسمى إصباحا .

التالي السابق


الخدمات العلمية